رحلةواقعيةإلى عمق التأريخ

من طرف حسين العساف الخميس سبتمبر 11, 2008 6:30 am

رحلة واقعية إلى عمق التاريخ: بقلم: محمد السموري

افتتح المركز الثقافي العربي في منطقة رأس العين الواقعة في الشمال الغربي من الجزيرة السورية في حوض الخابور الأعلى (دار التراث ) بتاريخ 11/5/2008 وعقِب يوم الافتتاح: أسبوع التراث الشعبي الذي ضمّ فعاليات تراثية مختلفة من أماسي أدبية وغنائية ومحاضرات تراثية وفعاليات وأنشطة ثقافية متنوعة، أبرزها تلك الجهود المتعلقة بالتعريف بتراث المدينة خاصّة والجزيرة السورية عموما .فعلى مدخل المركز يستقبلك الأستاذ خلف الساير رئيس المركز بكوفية ( كًظاظة )وعقال وجلابية، مرحّبا بعبارات البدو التقليدية (يا هلا بيكم ـ الله محييكم )ويرافق ضيوفه إلى(الحوش)حيث نصبت خيمة(بيت شعر) في حديقة المركز المشجّرة حيث التماثيل والمجسّمات المصنوعة من مادة الجبس -على غرار قصر العظم - توزعت في أفيائها وتحت ظلالها الوارفة، تشعرك وأنت تدخل المركز للوهلة الأولى بأنك ترحل فجأة إلى التاريخ في عمق البادية، حيث الخيام تتوزع دون انتظام، والقائمون بالأعمال اليومية يؤدونها دون أي تكلف على سجية، وكأن الواحد منهم خلق لهذا العمل . امرأة تخبز على التنور، وتلك تسوّي خبز الرقاق على الصاج، وهذه العجوز المتثاقلة تدق الحنطة وتهيئها لعمل الحبيّة(الحنطية) وتخليصها من القشرة بالدق بواسطة الميجنة في حفرة بالأرض ذات التربة الحمراء النظيفة، وأخريات يغربلنها للتنظيف والفرز، أما تلك فتمثل عجوز أخرى تدير الرّحا(الجاروشة) لطحن الحبوب وتهيئة الدقيق أو تكسير الحنطة المسلوقة لعمل البرغل أو أشياء كثيرة متعلقةبالمؤونة ،وفي زاوية غير بعيدة ترى تمائيل لفتيات يلعبن (الصكَلة) ورجال يلعبون( الدامة والبوّيتة) أما هؤلاء الجالسون في الخيمة(الربعة) فيرتشفون فناجين القهوة المرّة من دلالها الكثيرة الموضوعة في المعاميل فتجد المحمّس والنجر وفي الموقد ( الكّانون ) تجد القمقم والعشرة والمصب ّ وهم يتسامرون أو يتحدثون بشؤون المرعى،ولا يكترثون لمن في القسم الثاني من الخيمة المسمى(المحرم) حيث فتاة تتزين وتتعطر بالقرنفل، وحب ّ الرزّ، والمحلب، والخضيرة، وعود المسك، وغيرها تغلفها بأكياس صغيرة وتجعلها قلادة تعلقها في جيدها لتعبق عطورها كلما هب ّ نسيم رأس العين العليل، إلى جانب حليها من قلادة صفّ النيرات، والتراجي، إلى الخزامة، والوردينة،والعران في الأنف، والباص يعلو الجبهة، أو امرأة تغزل الصوف وأخرى تغسل جسد ولدها وهو يصرخ محاولا الإفلات كلما غافلها ويرافق أحاديث الربعة المسؤولة عادة وغير المنهجية، صوت خضّ الخاثر في المشكاة كسيمفونية ألفها موسيقار مبدع،فتلك فتاة البيت الكبرى راعية البيت الشاطرة (العزِبة )قد استيقظت باكرا فوضعت الخاثر في المشكاة، وعلقتها على ركابها المخصص، ووضعت أشيائها على زرب من العيدان اسمه (المخضّة) فتوزعت دون انتظام فهنا(المشخالة) لتصفية الزبدة من اللبن، والمصل، وهناك(المزبد)، وهو جلد جدي تمت دباغتة لحفظ الزبدة، والطاسة، وشىء من (جشوة الخاثر)أو جشوة الحليب القشطة،وبجانبها قطّ ينتظر التقاط أي شىء، وكلب باسط جنب القدور والمناسف، ينتظر منابحة ضيف هاشل، أو راشن، فيُكعم، وصبيّ عطش ينتظر خروج (الشنينة )من المشكاة بصبر ليروي ظمأه، ثم يناول إفطاره بقليل من (الفتيتة )شىء من الزبدة، وخبز الصاج، أوالزبدة المخلوطة بالدبس، أو السكر، ثم يطير لاعبا ًفي فلاة واسعة مدى البصر، في الخيمة التراثية تشاهد كل شىء كما هو، فالوجوه وجوه الأمس تملأها الجديّةوالشحوب، والعيون ترمق السماء لعلها تجود بمزنة، فيهزجون استقبالا لها واستبشارا بخيراتها بعبارات (حيج ولا حي الغلا) تملأ الغدران فيرِد الحلال وينبت الزرع والكلأ، ويفقأ الكمأ، والفطر غذاؤه المفضل،واللباس لباس الأمس من الزبون، إلى الهباري، إلى المكَطنة، والجوخة، الى العصبة، والشويحي، والملفع للنساء، ثم العقال، والكوفية المركزيت أو الشماغ، والزبون، والجلابية، والشالة الصيفية، والعباءة الشتوية، للرجال، فوقها (الفروة )من الفراء، وتجد أسلحة البدو معلقة على العمود الوسطاني وهي السيف والبارودة (التفنكة )، كما تجد ضروب من العصي (كالشحيلية، والجناة، والكلنك، والمبسمر)، وغيرها، إلى جانب هذه المعلقات تجد القنديل، والسراج، أما والربابة فتنتظر شاعر يتناولها فيصدح بأيات من البوذية يطلب من الحضور حلّ ألغازها، فيقضون السهرةبالمحاولة تلو الأخرى لكنه لا يحلها لهم ليتركهم في جدلهم إلى أن يعود في الموسم القادم. أما الأطفال فحفاة شبه عراة لا يلبسون أكثر من جلابية ملطخة من أمام بكل ما أكلوا. بعضهم يفك الحرف وكثير منهم يحفظون أبياتا من النايل والسويحلي، ويحلون الألغاز البوذية والحزازير بمهارة المتدرب.هذه الخيمة (القطبة) كما تعرف عندما تكون صغيرة بعمود وسطي واحد .وهناك المكَورن، والمثولث، والمخومس، والمسوبع، حسب حجم البيت بعدد الأعمدة التي تحمله. وتشاهد في خيمة التراث (الكّا سر) وهو أطراف الخيمة الطولية الجانبية المتدلية (والرِفاف) أطرافها الخلفية والأمامية، التي تربط بواسطة (الخلال ) وهو مسمار له حلقة ربط طوله( فتر)واحد أي بين السبابة والوسطى، وتشاهد ( الخُرُم ) وهو حبسة الخشب المثقوبة التي تربط بها الحبال لتثبت على الأرض بأوتاد خاصة من الخشب القاسي، أو الحديد، وفي جانب غير بعيد من الخيمة لا تستغرب إن وجدت أشياء مندثرة منذ منتصف القرن العشرين مثل (التبّــك ) وهو روث الحيوانات مخلوط بالتين ومجفف لوقود الشتاء مصفوف على شكل حلقة اسمها (الصيرة) ثم تنتبه إلى الونيّ وهو حفرة كالساقية تحيط بالبيت من جميع الجهات لدرء السيول فقالوا مثلهم (المايوني يغرق)لقد استطاع المركز الثقافي العربي في رأس العين استدعاء التاريخ إلى الحاضرفجعل أغنام وجمال الأمس تشرب من نافورة المركز الكهربائية على أنها عين الكبريت التي جفت منذ مطلع الثمانينات، وجعل عدسة تصوير الديجيتال تتجول بين المرابع جنبا إلى جنب مع شيخ عجوز يمص ّغليونه ويقف خلسة خلف حلقة الدبكة يترصّد الشبان من أيّ خروج عن اللائق فينهر كل سفيه، أو يصلح بعقله الراجح بين متنافسين على( الحمل ) أي إمساك الفتيات بأيدي الشبان في الدبكة، وهم يشعرون بهذا من الخلف على موسيقى حجولهن التي تأخذ بالألباب،عدنا من رحلتنا التي كانت في عمق التاريخ إلى حاضر سرعان ما أسررنا إلى الدكتور صايل سلوم مدير التراث في وزارة الثقافة، والدكتور أحمد الدريس مدير ثقافة المحافظة: أنه رغم كل ّ هذه الجهود فإنّ المركز يطمح للمزيد من الدعم المادي والتشجيع، والتعاون الأهلي والحكومي ليتحوّل بيت التراث هذا إلى متحف للتقاليد الشعبية في رأس العين يضم ويحفظ كلّ ما وقع تحت الأيادي من موجودات وأدوات تراثية يقتنيها أحدهم أو لا يسوم لها بالا ً، فيحفظها بأسمه،ولم نخف هاجسنا بعتميم الفكرة ومطلبنا الغيور بتخصيص مهرجان سنوي للتراث الشعبي نعتقد أنه يحفظ أرضنا البكر بالتراث من تلويث العولمة .

المقال مأخوذ من موقع(ديوان العرب)