تحامل النشاشيبي على الدكتورطه حسين
صفحة 1 من اصل 1
تحامل النشاشيبي على الدكتورطه حسين
تحامل النشاشيبي على الدكتورطه حسين ـ الجزء الأول
كان طه حسين مثاراً للجدل والمعارك الفكرية والأدبية،ليس في حياته التي ألّبت عليه الخصوم والأعداء فحسب،وإنما بعد رحيله أيضاً.
عرض موجز لآراء النشاشيبي في الدكتور طه حسين:
لفتت نظري داخل دائرة صغيرة مرسومة على غلاف مجلة (سوراقيا) اللبنانيةفي عدد من أعدادهاعبارة تقولالوجه الصهيوني لطه حسين)،وهي تشير إلى مقال عنوانهالوجه الآخر لطه حسين) بقلم الكاتب الصحفي المعروف الأستاذ ناصر الدين النشاشيبي،وكتبت عبارة بالخط العريض تحت العنوان،تقولعاش فرنسياً بالنسبة إلى مصر،ومصرياً بالنسبة إلى العرب،ولم يكن عربياً ولا عروبياً أبداً.)،(1)وهذا ما حفّزني لقراءة المقال،وفي بدايته يقول الكاتبإن طه حسين كان زميلاً لي في رئاسة تحرير جريدة (الجمهورية) بالقاهرة مدة سبع سنوات،وكان يتقاضى الدكتورراتب رئيس التحريركاملاً الذي لم يكن يقل عن خمسمائة جنيه مصري في الشهر،رغم أنه لم يكتب على صفحات (الجمهورية) مقالاً واحداً،كان يأخذ الراتب مقابل وضع اسمه على (ترويسة) (الجمهورية)،رغم أنَّ معظم قرّاء جريدة (الجمهورية) ليسوا من خريجي الجامعات،ولم يقرؤوا الأدب الجاهلي، ولم يسمعوا باسم طه حسين)
مستوى العلاقة بين النشاشيبي وطه حسين:
ثم يقول:{وكان الود مفقوداً بين (العميد) الهمام وبيني،ولم أزره في منزله كما طلبوا مني، ولم أسأل عنه في فترات مرضه،ولم يعنيني أمرالإشارة إلى نصائحه في جلسات التحرير.) ثم يتابع الكاتبوعندما زرت باريس في مهمة صحافية لتغطية أخبار (مؤتمر الأقطاب) العام 1960،وحاول الزميل الصهيوني المسيو (شرايبر) رئيس تحرير مجلة (الإكسبريس) الفرنسية التطاول على كرامتي وعلى الجريدة التي كنت أرأس تحريرها،وذلك بأن تعمّد إلغاء موعد المقابلة معي بعدما قيل له إنني (مقدسي الأصول،وفلسطيني الهوى،وعربي الميول،وقومي النزعة، وصميمي المبدأ)،وعدت إلى القاهرة،ونشرت القصة كاملة على صفحات (الجمهورية) وجن جنون رئيس تحرير(الإكسبريس) الذي عمد إلى التكذيب، مما دعاني إلى سرد كل التفاصيل المتعلقة معه، إلى أن لجأ هذا الفرنسي إلى طه حسين محتجاً إليه،ومحتمياً به،وإذا بعميدالأدب العربي ينتصر لليهودي ضد زميله العربي الفلسطيني،ويتصل برئيس مجلة الإدارة ـ صلاح سالم ـ ويطلب منه أن تعتذر الجريدة لرئيس (الإكسبريس) في باريس، ورفض صلاح سالم،ولم يتراجع طه حسين عن تأييده الأعمى لصديقه الفرنسي إلاَّ عندما أحسَّ بأن الموضوع سيتضخم،وسيصل إلى جمال عبد الناصر.
النشاشيبي يبحث عن علاقة العميد باليهود والحركة الصهيونية:
ومنذ ذلك الوقت عزمت أن ألزم الابتعاد التام عن جريدة (طه حسين)، كما رحت أسأل،وأدرس،وأبحث عن مدى علاقة عميد أدبنا العربي باليهود والحركة الصهيونية، وجاءني أكثر من جواب،وأصابتني أكثر من دهشة،غيرأني توقفت عند مجلة أدبية يهودية معروفة اسمها (الشمس)، تصدر باسم الجالية اليهودية في مدينة الإسكندرية بمصر، حيث قرأت في الصفحة الأدبية من المجلة المذكورة نص المحاضرة التي كان قد ألقاها عميدنا في دار المدارس الإسرائيلية بالإسكندرية مساء الخميس 23 كانون الأول (ديسمبر) العام 1943 عن (اليهود والأدب العربي)، ثم يضيف الأستاذ النشاشيبي قائلاً: ( وأنشر فيما يلي النص الحرفي لما أوردته مجلة يهود الإسكندرية عن المحاضرة المذكورة للدكتور طه حسين، في عددها الصادر يوم الجمعة 7 كانون الثاني (يناير) 1944)، وكان ما أوردته المجلة جاء ملخصاً على لسان مندوبها (منصور وهبه)، قالت المجلة بعنوان: (اليهود والأدب العربي) (محاضرة الدكتور طه حسين بك في مدارس الطائفة الإسرائيلية بالإسكندرية،كماوافانا بها مندوبنا في الإسكندرية).
نص محاضرة العميد عن اليهود والأدب العربي:
أمّا أنا فسأورد، تجنباً للانتقاء،النص الحرفي لموجز المحاضرة التي نشرها الأستاذ النشاشيبي في مقاله : (عندما أجلى الرومان اليهود عن فلسطين،تفرّق هؤلاء في البلاد المجاورة،واستقروافي شمال وجنوب الجزيرة ، ولا سيما بجوار المدينة،وبدأ اليهود يصبغون مضيفهم بثقافتهم الدينية،وفضائلهم حتى أصبح كثير منهم مستعداً لقبول الإسلام،ولكن بجانب هذا تأثر اليهود بالعرب، فأخذوا اللغة وبعض العادات،وقرضوا الشعر،كما يقرضه العرب من دون أن يزيدوا شيئاً في أوزانه أو قوافيه،ولكن الشعر اليهودي،امتازبالحث على الفضائل،وإنكار اللذات،وكانت معظم مراميه أن الحياة وسيلة لا غاية،وامتازاليهود بين إخوانهم العرب بالوفاء،وطلب المثل العليا ، كما نلاحظ في شعر السموأل بن عادياء،وربيعة بن الأشرف وغيرهما من شعراء اليهود ، وأخذ عنهم العرب فلسفتهم في أن الحياة وسيلة لا غاية،ولكن اختلفواعنهم في أن الحياة للفرد وأنانيته ومتعه ومجونه،كما نلاحظ ذلك في شعر طرفة بن العبد.)، (وخبت جهودهم في الأدب والشعر في شرق الإمبراطورية العربية،وتحاشوا كل ما من شأنه الاحتكاك بالحكام بعكس النصارى،ولكن اليهود كانوا الدماغ المدبر للمالية والاقتصاد أثناء هذا العصر،وكانت منهم طائفة كبيرة من العلماء في الإسكندريةعند دخول عمرو بن العاص ، وكان اليهود المستقرون في بلاد النصارى يعاونون أبناء عمومتهم العرب على الفتح والاستعماروأعوانه، ولمن الإنصاف أن نذكر أنهم كانوا عنصراً أساسياً في غزو بلاد الأندلس ومساعدة طارق بن زياد ضد القوط ، وأن العرب في كل مراحل الغزو في شمال أفريقية وأوروبا وحتى فلسطين كان يقدمون جيوشهم،وكان اليهود يتعاونون معهم في إدارة البلاد سياسياً واقتصادياً بل وفي تسهيل العمل لسيرهذه الجيوش الغازية ، ولولا هذا التعاون الوثيق لما كانت الإمبراطورية العربيةالضخمة.)، (ومن نوابغ اليهود في الاقتصاد مدير إدارة الخزينة (يعقوب من كاس) الذي وفد على مصر أيام كافور الإخشيدي ، وظل يتقلّب في مناصب الدولة حتى أصبح وزيراً فرئيساً للوزراء،ونظم المالية المصرية بحذقه وكياسته ردحاً طويلاً من الزمن،وكان متواضعاً،رفعته أعماله،ولم ينل منه حسّاده شيئاً ، وقد أسلم في آخر أيامه،وأصبح إماماً يخطب المسلمين في الجوامع،ويعظهم،ويناشدهم الاستمساك بالفضائل والبر والأخلاق .) (أمّا في أسبانية فكانت جهود اليهود هائلة جبارة أيام الدولة الأمويةوبعدها،وكان نشاطهم كالسيل الجارف،وكانت أوروبا المسيحية في تلك الأحقاب تنظر إلى الشرق،كما ينظر الشرق الآن إلى أوروبا من حيث العلم والعرفان، وكان اليهود هم الذين نقلوا ثقافة العرب وتراث العرب إلى أوروبا، فأشعلوا الفتيل الذي التهب عن الحضارة الحديثة في كل مناحيها، فإليهم يرجع الفضل في جعل الأدب العربي أدباً عالمياً عن طريق الترجمة إلى اللاتينية مباشرة أوعن طريق الترجمة إلى العبرية ثم اللاتينية.)، ثم يتابع مندوب مجلة(الشمس) تلخيصه محاضرة الدكتور قائلاً : ثم أثنى المحاضر على المدارس الإسرائيلية التي شرعت تعير العربية اهتماماً،وحث الدكتور يهود مصر على الإقبال على لغة البلد الذي يعيشون فيه،والإقبال على تذوق الأدب العربي، كما كان يفعل أسلافهم.
طه حسين ترأس تحرير جريدة مصرية،يموّلها اليهود:
وبعد أن أنهى كاتب المقال عرضه لملخص المحاضرة، ذكر أن (طه حسين)،كان الكاتب(العربي)الذي ترأس تحرير جريدة اسمها (الكاتب المصري) العام 1945،والتي كانت تموّلها مادياًومعنوياً شركة(الكاتب المصري للورق والأدوات المكتبية) المملوكة لأسرة(هراري)اليهودية المصرية الثرية العريقة، المعروفة، ومن عرضه لموجز محاضرة الدكتور،وإشارته إلى ترأس الدكتور الجريدة المذكورة، يستنتج كاتب المقال الوجه الصهيوني لطه حسين.
النشاشيبي يستعرض ذكرياته مع العميد:
ثم يستعرض بعد ذلك ذكرياته مع طه حسين، ويروي اتصال الدكتور به هاتفياً أول مرة غاضباً على المقال المنشور في جريدة (الجمهورية) الذي يمدح مغنية،وطالباً مجلس الإدارة أن يرفعوا الجريدة عن هذه الترهات، ثم يستعرض رواية أخرى يقول فيها: دخل علينا صلاح سالم ـ رئيس مجلس الإدارة ـ ذات يوم، وعلى فمه ضحكة واسعة،لم يستطع أن يخفيها،وقالالدكتور طه) يقترح تبديل اسم الباب الرئيسي في الصفحة الأخيرة من (اليوميات) إلى (مع الأيام)،ورفضنا اقتراح العميد، شاكرين،ضاحكين،ثم جاءنا اقتراح خطي من الدكتور ينادي بضرورة عدم الإسهاب في نشر قصص الجرائم بحجة أن ذلك يشجع المجرمين في مصر على الاستمرار في اقتراف جرائمهم ضد المجتمع،ولم يؤيده واحد منا،وفي رواية أخرى يذكر أنه عندما مرض صلاح سالم،وسافر إلى أمريكا،وعاد منها ميئوساً من شفائه، كان (طه حسين) يواصل اتصالاته التليفونية بنا للاستفسارعن صحة صلاح سالم،ولعله اتصل ذات يوم، ولمّا لم يجد من يطمأنه عن صحة صلاح سالم أو عن أحواله،بادرإلى الاتصال بمستشفى الطيران في (العباسية)وأجابه جمال سالم شقيق صلاح،ودار بينهما حوائ، يرويه كاتب المقال بطريقة ساخرة من شخص (طه حسين) إذ يجيب أخو المريض عن أسئلة (طه حسين) بعبارات بذيئة ضاجرة من أسئلته،لا تنم عن تقدير له أو شكرلاهتمامه بصحة أخيه، ثم لا يلبث سرد ذكريات كاتب المقال أن يخرج عن حدود اللباقة كما في الرواية التي يذكر فيها أنهم فوجئوا في إحدى جلسات مجلس الإدارة بالأستاذ (سيد إبراهيم) المدير العام في الجريدة ، وهو يقدم استقالته من العمل !! وبعد التحقيق تبين أن الأستاذ (سيد إبراهيم) ارتكب غلطة عمره في حوار هاتفي بينه وبين الدكتور طه حسين،لأنه خاطب الدكتور بلقب (أستاذ) بدلاً من لقب (باشا)،ويتابع سرد هذه الرواية قائلاً: والمعروف أنَّ زميلنا الأستاذ الشاعر المعروف (كامل الشناوي)، كان بارعاً في تقليد الأصوات إلى درجة مذهلة،وأنه قررّ ذات يوم أن يمثل شخصية(طه حسين)،فيطلب على الهاتف(سيد إبراهيم)،ويجري بينهما حوار، يبدؤه (كامل الشناوي) في شخصية طه .
- ألو ، أنا طه باشا ، يا سيد أفندي .
- سيد إبراهيم : حاضر ، تفضل يا أستاذ طه .
ثم يغضب عليه (طه حسين) لمخاطبته إياه بلقب أستاذ فيوبخه ، ويهينه ، ثم يرد عليه سيد إبراهيم بعبارات سوقية وشتائم قاسية مؤلمة، ثم يغلق الهاتف بوجه (طه حسين)، ثم يهرول (سيد إبراهيم) إلى مجلس الإدارة لتقديم استقالته ، وعندما سمع (طه حسين) بتفاصيل الرواية بعد وقوعها بإسبوع، لم يضحك،ولم يحتج،ولم يعلّق،وإنما اكتفى بالقول : (لعمري إنَّ هذا تهريج كالتجريح، أو ضحك كالبكاء، أو تمثيل كضرب السّياط من شأنه أن يهبط بالجريدة إلى الحضيض، قولوا للأستاذ الشناوي أن يكف عن هذه الألاعيب المعيبة.
حديثه عن شخصية العميد:
وبعد سرد ذكرياته مع طه حسين ، ينتقل كاتب المقال للحديث عن شخصية (طه حسين) كما سمع عنها ، أو عرفها أو زاملها سنوات طوالاً فيرى أنّ (طه حسين) عاش فرنسياً بالنسبة إلى مصر ، ومصرياً بالنسبة إلى العرب ، ولم يكن عربياً ولا عروبياً أبداً ، ثم يستعرض آراء كبار الأدباء والنقاد فيه ، فيقول : { وعلى الرغم من كل ذلك . بقي طه حسين ، كما يقول عنه توفيق الحكيم (أسطع ضوء للفكر العربي في القرن العشرين ، والمنارة المضيئة مع الشرق .) وبقي طه حسين كما كانت تسميه (مي زيادة) (أبا العلاء وفولتير) وبقي عند صديقنا الشاعر نزار قباني (المبصر الوحيد الذي لا تدافع عنه عصور العميان .) ولكنه عندي الزميل الذي لا أحب، والأستاذ الذي لا أثق بعروبته، ولاأرتاح إلى وطنيته.} ثم يختم الكاتب مقاله بهذه العبارةهذا العميد المصري ليس منا، ولسنا منه.)
الرد على آراء النشاشيبي في العميد:
الوجه الصهيوني لطه حسين:
قد لا يكون تلخيص المحاضرة المنسوبة إلى (طه حسين) الذي قام به يهودي ، يعمل مراسلاً لمجلة يهودية بريئاً من الغرض ، نزيهاً من الدس ، ولكن كي نقوّم محاضرة (طه حسين) في علاقة اليهود بالأدب العربي أوبالعرب، ونحكم عليها حكماً منصفاً دقيقاً أو قريباً منهما ، ينبغي أن يتوافر لنا قبل كل شيء النص الكامل لمحاضرته، وإلاَّ فإنّا نظلم الرجل إذا اعتمدنا ملخصاً عرضه علينا يهودي، ونشره كاتب ستتضح بعد قليل علاقته بطه حسين، ورغم ذلك إذا كان لابد من قراءة النص المعروض أمامنا على علاّته، فإنَّ ما نلاحظه على كاتب المقال أنه لم يعلّق على النص، ولم يحدد فيه ما يدل على الوجه الصهيوني لطه حسين، كأن يشير على سبيل المثال إلى وقوع هذا الرجل في خطأ تأريخي أو مغالطة في حديثه عن العلاقة بين العرب واليهود في تلك المرحلة، فيدحضهما إلاَّ إذا اعتبر الكاتب إشارة طه حسين إلى وقوف اليهود إلى جانب العرب أو تأثرهم بالعرب في مراحل غزوهم في شمال أفريقيا أو في فتح الأندلس دلالة على وجهه الصهيوني،فهذا أمر ينبغي التوقف عنده قليلاً.وليس بوسع أحدأن ينكرماكان نتيجة الاختلاط بين العرب واليهود عبرمراحل التاريخ، لاسيما في فترة موضوع الحديث من تأثر وتأثير متبادل بينهما، كان اليهود فيها هم المتأثرين في أغلب الأحيان.وإذا كان طه حسين يتحدث عن هذه العلاقة، فإنه يحاول أن يكون موضوعياً دقيقاً منصفاً ما استطاع إلى ذلك سبيلاً،وليس معنى ذلك أنه مصيب، فقد يخطئ أو يبالغ. وعلى كل حال فإن مضمون المحاضرة يتناول العلاقة بين اليهود والعرب في مرحلة محددة واضحة هي مرحلة ازدهار الحضارة العربية الإسلامية منذ بدء الفتوحات في القرن الأول للهجرة حتى مرحلة استقرار العرب بالأندلس، فيبين المحاضر تأثر اليهود بالشعر العربي وبأوزانه وقوافيه،وتقديم اليهود،كما يزعم ملخص المحاضرة،المال لتسيير جيوش المسلمين إلى الفتوحات،ونقلهم ثقافة العرب وتراثهم إلى أوروبا الذي أسفر عن هذه الحضارة الحديثة بكل جوانبها،ويتناول ترجمة اليهود الأدب العربي إلى اللاتينية مباشرة أو إلى العبرية ثم اللاتينية ليصبح فيما بعد أدباً عالمياً، كما يبين المحاضر دور نوابغ اليهود في الحضارة العربية الإسلامية ثم إسلام بعضهم،وما تقدم ذكره،لا يدل على الوجه الصهيوني لطه حسين كما أراده كاتب المقال، وإنما أراد طه حسين أن يدلل على تأثير الحضارة العربية الإسلامية في اليهود،هذه الحضارة الشامخة التي استوعب كيانها الواسع كل الملل والنحل والطوائف والمذاهب جميعها على اختلافها التي أسهمت كلها إلى جانب العرب في بناء هذه الحضارة، والمأخذ على كاتب المقال أنه عزل النص عن ظرفه التأريخي، فالنص محكوم بظرفه، ومن الخطأ عزله عن ظرفه ذلك أن الظرف التأريخي الذي عاش فيه اليهود في كنف الحضارة العربية الإسلامية غير الظرف الذي ألقى فيه (طه حسين) محاضرته في العام 1943، فمن المؤكد أن اليهود في عهد الفتوحات العربية الإسلامية ليسوا صهاينة.
اليهود في نسيج المجتمع المصري قبل قيام(إسرائيل):
وقد يكون من أبناء الطائفة اليهودية في مصر أيام محاضرة طه حسين يهود لا صهاينة،والمحاضرة المذكورة سبقت تأسيس ما يسمى بدولة (إسرائيل) في العام 1948 بخمس سنوات،كذلك فإن الظرف الذي ألقى فيه طه حسين محاضرته يختلف عن الظرف الذي طرأ على الساحة الفلسطينية والعربية بعد العام 1948.لذا فإنه من العسف النظر إلى تولي (طه حسين) رئاسة تحرير جريدة (الكاتب المصري) في ذلك الوقت بعين ظروفنا الراهنة،وللبيان أقول: نعم! إن شركة (الكاتب المصري للورق والأدوات المكتبية)،كانت شركة مصرية داخل مصر، ويقال إنّها مملوكة لأسرة يهودية،وكانت تركيبة المجتمع يومذاك خليطاً من جاليات أجنبية شتى أقامت في مصر،وحصلت على امتيازات قديمة من دول الغرب الاستعماري،كما كانت في مصر جاليات يهودية ارتبط وجودها بظروف تأريخية:فقد كان في الإسكندرية جماعات من اليهود،وأغلبهم عائلات تراجعت مع العرب من الأندلس،وتوزّعت على شواطئ البحر الأبيض التوسط من الغرب حتى استانبول،واستقر بعضهم كوسطاء ووكلاء للتجارة مع المدن الإيطالية،وكان في القاهرة حارة لليهود،وكانت حيّاً نشطاّ من أحياء القاهرة على صلة مباشرة بالقلب التجاري للمدينة،وكان مما سهل اندماج الطائفة اليهودية التي تجاوزت الستين ألفاً في ذلك الوقت في الحياة المصرية أن قمة الطبقة المتوسطية في مصر كانت غالباً من أصول أجنبية،وقد برزت في تلك الفترة في مصر عائلات يهودية متنفذة مثل (قطاوي) و(موصيري) و(منشة) و(شيكوريل) و(رولو) و(ساسان) وغيرها،واحتل اليهود ما نسبة 39% من مقاعد مجالس إدارات جميع الشركات الصناعية والمالية في مصر، وشاركت عائلات منهم في إنشاء (بنك مصر) نفسه،وكانت لهم شبه سيطرة مؤثرة على عدد من الشركات الزراعية،ومارست نخبة من الطائفة اليهودية قدراً من التأثير في الحياة الاجتماعية،فقد كان لفرقة (الهابيما) المسرحية التي أنشأها اليهود في فلسطين مواسم في القاهرة،وكذلك الفرقة المسرحية (الفيلهارمونية) اليهودية التي أصبحت فيما بعد الأوركسترا الأولى في (إسرائيل)،وكانت الجامعة المصرية في فترة تألقها في الثلاثينات على صلة وثيقة بالجامعة العبرية في القدس،وكان بين أحمد لطفي السيد مدير الجامعة المصرية والدكتور (ماجنس) مدير الجامعة العبرية بالقدس صداقة،وكان (حاييم ناحوم أفندي) حاخام الطائفة اليهودية في مصر عضواً في مجلس الشيوخ المصري ثم عضواً بارزاً في مجمع اللغة العربية،وصديقاً مؤثراً على النخبة السياسية والثقافية والفكرية في مصر، داخل القصر الملكي وخارجه،وكان (حاييم إدجمان) أهم شخصية في جريدة (الأهرام) بعد رئيس تحريرها،كما كان (جون كيمشي) ابن عم (دافيد كيمشي) مسؤول الموساد الشهير مراسل (أخبار اليوم) المصرية في لندن،وكان(جوزيف ليفي) مراسل الجريدة في نيويورك أبرز رجال تنظيم المخابرات التابع للوكالة اليهودية،وكان بين مؤسسي نقابة الصحفيين المصريةعدد من اليهود،وفي تلك الفترة ترجم الماجور(أباإيبان) أبرز المتحدثين باسم الجيش البريطاني في القاهرة والذي أصبح فيما بعد وزيراً لخارجية (إسرائيل) أعمال عدد من كبار الكتاب المصريين إلى اللغة الإنكليزية بينهم (توفيق الحكيم) الذي ترجم له (أبا إيبان) كتابين هما: (عودة الروح)
و(شهرزاد) وكان بين الطائفة اليهودية تيار يدعو إلى مجتمع البحر الأبيض المتوسط،وهكذا فقد بدا أنَّ اليهود باتجاهات صهيونية أو غير صهيونية،يملكون في تلك الفترة مواقع مهمة ومؤثرة على قاعدة المجتمع المصري وقمته.(2)،ويبدو أن مصر وهي تحت الاحتلال البريطاني ( لم تكن واعية بما يجري على أراضيها لدعم المشروع الصهيوني في فلسطين) وإذا كانت هذه هي ظروف المجتمع المصري في الوقت الذي ألقى فيه طه حسين محاضرته في الإسكندرية،فإنه لابد من التعرف أيضاً إلى ظروف طه حسين نفسه بعد تلك الفترة.
حسين حمدان العسّـا ف
كان طه حسين مثاراً للجدل والمعارك الفكرية والأدبية،ليس في حياته التي ألّبت عليه الخصوم والأعداء فحسب،وإنما بعد رحيله أيضاً.
عرض موجز لآراء النشاشيبي في الدكتور طه حسين:
لفتت نظري داخل دائرة صغيرة مرسومة على غلاف مجلة (سوراقيا) اللبنانيةفي عدد من أعدادهاعبارة تقولالوجه الصهيوني لطه حسين)،وهي تشير إلى مقال عنوانهالوجه الآخر لطه حسين) بقلم الكاتب الصحفي المعروف الأستاذ ناصر الدين النشاشيبي،وكتبت عبارة بالخط العريض تحت العنوان،تقولعاش فرنسياً بالنسبة إلى مصر،ومصرياً بالنسبة إلى العرب،ولم يكن عربياً ولا عروبياً أبداً.)،(1)وهذا ما حفّزني لقراءة المقال،وفي بدايته يقول الكاتبإن طه حسين كان زميلاً لي في رئاسة تحرير جريدة (الجمهورية) بالقاهرة مدة سبع سنوات،وكان يتقاضى الدكتورراتب رئيس التحريركاملاً الذي لم يكن يقل عن خمسمائة جنيه مصري في الشهر،رغم أنه لم يكتب على صفحات (الجمهورية) مقالاً واحداً،كان يأخذ الراتب مقابل وضع اسمه على (ترويسة) (الجمهورية)،رغم أنَّ معظم قرّاء جريدة (الجمهورية) ليسوا من خريجي الجامعات،ولم يقرؤوا الأدب الجاهلي، ولم يسمعوا باسم طه حسين)
مستوى العلاقة بين النشاشيبي وطه حسين:
ثم يقول:{وكان الود مفقوداً بين (العميد) الهمام وبيني،ولم أزره في منزله كما طلبوا مني، ولم أسأل عنه في فترات مرضه،ولم يعنيني أمرالإشارة إلى نصائحه في جلسات التحرير.) ثم يتابع الكاتبوعندما زرت باريس في مهمة صحافية لتغطية أخبار (مؤتمر الأقطاب) العام 1960،وحاول الزميل الصهيوني المسيو (شرايبر) رئيس تحرير مجلة (الإكسبريس) الفرنسية التطاول على كرامتي وعلى الجريدة التي كنت أرأس تحريرها،وذلك بأن تعمّد إلغاء موعد المقابلة معي بعدما قيل له إنني (مقدسي الأصول،وفلسطيني الهوى،وعربي الميول،وقومي النزعة، وصميمي المبدأ)،وعدت إلى القاهرة،ونشرت القصة كاملة على صفحات (الجمهورية) وجن جنون رئيس تحرير(الإكسبريس) الذي عمد إلى التكذيب، مما دعاني إلى سرد كل التفاصيل المتعلقة معه، إلى أن لجأ هذا الفرنسي إلى طه حسين محتجاً إليه،ومحتمياً به،وإذا بعميدالأدب العربي ينتصر لليهودي ضد زميله العربي الفلسطيني،ويتصل برئيس مجلة الإدارة ـ صلاح سالم ـ ويطلب منه أن تعتذر الجريدة لرئيس (الإكسبريس) في باريس، ورفض صلاح سالم،ولم يتراجع طه حسين عن تأييده الأعمى لصديقه الفرنسي إلاَّ عندما أحسَّ بأن الموضوع سيتضخم،وسيصل إلى جمال عبد الناصر.
النشاشيبي يبحث عن علاقة العميد باليهود والحركة الصهيونية:
ومنذ ذلك الوقت عزمت أن ألزم الابتعاد التام عن جريدة (طه حسين)، كما رحت أسأل،وأدرس،وأبحث عن مدى علاقة عميد أدبنا العربي باليهود والحركة الصهيونية، وجاءني أكثر من جواب،وأصابتني أكثر من دهشة،غيرأني توقفت عند مجلة أدبية يهودية معروفة اسمها (الشمس)، تصدر باسم الجالية اليهودية في مدينة الإسكندرية بمصر، حيث قرأت في الصفحة الأدبية من المجلة المذكورة نص المحاضرة التي كان قد ألقاها عميدنا في دار المدارس الإسرائيلية بالإسكندرية مساء الخميس 23 كانون الأول (ديسمبر) العام 1943 عن (اليهود والأدب العربي)، ثم يضيف الأستاذ النشاشيبي قائلاً: ( وأنشر فيما يلي النص الحرفي لما أوردته مجلة يهود الإسكندرية عن المحاضرة المذكورة للدكتور طه حسين، في عددها الصادر يوم الجمعة 7 كانون الثاني (يناير) 1944)، وكان ما أوردته المجلة جاء ملخصاً على لسان مندوبها (منصور وهبه)، قالت المجلة بعنوان: (اليهود والأدب العربي) (محاضرة الدكتور طه حسين بك في مدارس الطائفة الإسرائيلية بالإسكندرية،كماوافانا بها مندوبنا في الإسكندرية).
نص محاضرة العميد عن اليهود والأدب العربي:
أمّا أنا فسأورد، تجنباً للانتقاء،النص الحرفي لموجز المحاضرة التي نشرها الأستاذ النشاشيبي في مقاله : (عندما أجلى الرومان اليهود عن فلسطين،تفرّق هؤلاء في البلاد المجاورة،واستقروافي شمال وجنوب الجزيرة ، ولا سيما بجوار المدينة،وبدأ اليهود يصبغون مضيفهم بثقافتهم الدينية،وفضائلهم حتى أصبح كثير منهم مستعداً لقبول الإسلام،ولكن بجانب هذا تأثر اليهود بالعرب، فأخذوا اللغة وبعض العادات،وقرضوا الشعر،كما يقرضه العرب من دون أن يزيدوا شيئاً في أوزانه أو قوافيه،ولكن الشعر اليهودي،امتازبالحث على الفضائل،وإنكار اللذات،وكانت معظم مراميه أن الحياة وسيلة لا غاية،وامتازاليهود بين إخوانهم العرب بالوفاء،وطلب المثل العليا ، كما نلاحظ في شعر السموأل بن عادياء،وربيعة بن الأشرف وغيرهما من شعراء اليهود ، وأخذ عنهم العرب فلسفتهم في أن الحياة وسيلة لا غاية،ولكن اختلفواعنهم في أن الحياة للفرد وأنانيته ومتعه ومجونه،كما نلاحظ ذلك في شعر طرفة بن العبد.)، (وخبت جهودهم في الأدب والشعر في شرق الإمبراطورية العربية،وتحاشوا كل ما من شأنه الاحتكاك بالحكام بعكس النصارى،ولكن اليهود كانوا الدماغ المدبر للمالية والاقتصاد أثناء هذا العصر،وكانت منهم طائفة كبيرة من العلماء في الإسكندريةعند دخول عمرو بن العاص ، وكان اليهود المستقرون في بلاد النصارى يعاونون أبناء عمومتهم العرب على الفتح والاستعماروأعوانه، ولمن الإنصاف أن نذكر أنهم كانوا عنصراً أساسياً في غزو بلاد الأندلس ومساعدة طارق بن زياد ضد القوط ، وأن العرب في كل مراحل الغزو في شمال أفريقية وأوروبا وحتى فلسطين كان يقدمون جيوشهم،وكان اليهود يتعاونون معهم في إدارة البلاد سياسياً واقتصادياً بل وفي تسهيل العمل لسيرهذه الجيوش الغازية ، ولولا هذا التعاون الوثيق لما كانت الإمبراطورية العربيةالضخمة.)، (ومن نوابغ اليهود في الاقتصاد مدير إدارة الخزينة (يعقوب من كاس) الذي وفد على مصر أيام كافور الإخشيدي ، وظل يتقلّب في مناصب الدولة حتى أصبح وزيراً فرئيساً للوزراء،ونظم المالية المصرية بحذقه وكياسته ردحاً طويلاً من الزمن،وكان متواضعاً،رفعته أعماله،ولم ينل منه حسّاده شيئاً ، وقد أسلم في آخر أيامه،وأصبح إماماً يخطب المسلمين في الجوامع،ويعظهم،ويناشدهم الاستمساك بالفضائل والبر والأخلاق .) (أمّا في أسبانية فكانت جهود اليهود هائلة جبارة أيام الدولة الأمويةوبعدها،وكان نشاطهم كالسيل الجارف،وكانت أوروبا المسيحية في تلك الأحقاب تنظر إلى الشرق،كما ينظر الشرق الآن إلى أوروبا من حيث العلم والعرفان، وكان اليهود هم الذين نقلوا ثقافة العرب وتراث العرب إلى أوروبا، فأشعلوا الفتيل الذي التهب عن الحضارة الحديثة في كل مناحيها، فإليهم يرجع الفضل في جعل الأدب العربي أدباً عالمياً عن طريق الترجمة إلى اللاتينية مباشرة أوعن طريق الترجمة إلى العبرية ثم اللاتينية.)، ثم يتابع مندوب مجلة(الشمس) تلخيصه محاضرة الدكتور قائلاً : ثم أثنى المحاضر على المدارس الإسرائيلية التي شرعت تعير العربية اهتماماً،وحث الدكتور يهود مصر على الإقبال على لغة البلد الذي يعيشون فيه،والإقبال على تذوق الأدب العربي، كما كان يفعل أسلافهم.
طه حسين ترأس تحرير جريدة مصرية،يموّلها اليهود:
وبعد أن أنهى كاتب المقال عرضه لملخص المحاضرة، ذكر أن (طه حسين)،كان الكاتب(العربي)الذي ترأس تحرير جريدة اسمها (الكاتب المصري) العام 1945،والتي كانت تموّلها مادياًومعنوياً شركة(الكاتب المصري للورق والأدوات المكتبية) المملوكة لأسرة(هراري)اليهودية المصرية الثرية العريقة، المعروفة، ومن عرضه لموجز محاضرة الدكتور،وإشارته إلى ترأس الدكتور الجريدة المذكورة، يستنتج كاتب المقال الوجه الصهيوني لطه حسين.
النشاشيبي يستعرض ذكرياته مع العميد:
ثم يستعرض بعد ذلك ذكرياته مع طه حسين، ويروي اتصال الدكتور به هاتفياً أول مرة غاضباً على المقال المنشور في جريدة (الجمهورية) الذي يمدح مغنية،وطالباً مجلس الإدارة أن يرفعوا الجريدة عن هذه الترهات، ثم يستعرض رواية أخرى يقول فيها: دخل علينا صلاح سالم ـ رئيس مجلس الإدارة ـ ذات يوم، وعلى فمه ضحكة واسعة،لم يستطع أن يخفيها،وقالالدكتور طه) يقترح تبديل اسم الباب الرئيسي في الصفحة الأخيرة من (اليوميات) إلى (مع الأيام)،ورفضنا اقتراح العميد، شاكرين،ضاحكين،ثم جاءنا اقتراح خطي من الدكتور ينادي بضرورة عدم الإسهاب في نشر قصص الجرائم بحجة أن ذلك يشجع المجرمين في مصر على الاستمرار في اقتراف جرائمهم ضد المجتمع،ولم يؤيده واحد منا،وفي رواية أخرى يذكر أنه عندما مرض صلاح سالم،وسافر إلى أمريكا،وعاد منها ميئوساً من شفائه، كان (طه حسين) يواصل اتصالاته التليفونية بنا للاستفسارعن صحة صلاح سالم،ولعله اتصل ذات يوم، ولمّا لم يجد من يطمأنه عن صحة صلاح سالم أو عن أحواله،بادرإلى الاتصال بمستشفى الطيران في (العباسية)وأجابه جمال سالم شقيق صلاح،ودار بينهما حوائ، يرويه كاتب المقال بطريقة ساخرة من شخص (طه حسين) إذ يجيب أخو المريض عن أسئلة (طه حسين) بعبارات بذيئة ضاجرة من أسئلته،لا تنم عن تقدير له أو شكرلاهتمامه بصحة أخيه، ثم لا يلبث سرد ذكريات كاتب المقال أن يخرج عن حدود اللباقة كما في الرواية التي يذكر فيها أنهم فوجئوا في إحدى جلسات مجلس الإدارة بالأستاذ (سيد إبراهيم) المدير العام في الجريدة ، وهو يقدم استقالته من العمل !! وبعد التحقيق تبين أن الأستاذ (سيد إبراهيم) ارتكب غلطة عمره في حوار هاتفي بينه وبين الدكتور طه حسين،لأنه خاطب الدكتور بلقب (أستاذ) بدلاً من لقب (باشا)،ويتابع سرد هذه الرواية قائلاً: والمعروف أنَّ زميلنا الأستاذ الشاعر المعروف (كامل الشناوي)، كان بارعاً في تقليد الأصوات إلى درجة مذهلة،وأنه قررّ ذات يوم أن يمثل شخصية(طه حسين)،فيطلب على الهاتف(سيد إبراهيم)،ويجري بينهما حوار، يبدؤه (كامل الشناوي) في شخصية طه .
- ألو ، أنا طه باشا ، يا سيد أفندي .
- سيد إبراهيم : حاضر ، تفضل يا أستاذ طه .
ثم يغضب عليه (طه حسين) لمخاطبته إياه بلقب أستاذ فيوبخه ، ويهينه ، ثم يرد عليه سيد إبراهيم بعبارات سوقية وشتائم قاسية مؤلمة، ثم يغلق الهاتف بوجه (طه حسين)، ثم يهرول (سيد إبراهيم) إلى مجلس الإدارة لتقديم استقالته ، وعندما سمع (طه حسين) بتفاصيل الرواية بعد وقوعها بإسبوع، لم يضحك،ولم يحتج،ولم يعلّق،وإنما اكتفى بالقول : (لعمري إنَّ هذا تهريج كالتجريح، أو ضحك كالبكاء، أو تمثيل كضرب السّياط من شأنه أن يهبط بالجريدة إلى الحضيض، قولوا للأستاذ الشناوي أن يكف عن هذه الألاعيب المعيبة.
حديثه عن شخصية العميد:
وبعد سرد ذكرياته مع طه حسين ، ينتقل كاتب المقال للحديث عن شخصية (طه حسين) كما سمع عنها ، أو عرفها أو زاملها سنوات طوالاً فيرى أنّ (طه حسين) عاش فرنسياً بالنسبة إلى مصر ، ومصرياً بالنسبة إلى العرب ، ولم يكن عربياً ولا عروبياً أبداً ، ثم يستعرض آراء كبار الأدباء والنقاد فيه ، فيقول : { وعلى الرغم من كل ذلك . بقي طه حسين ، كما يقول عنه توفيق الحكيم (أسطع ضوء للفكر العربي في القرن العشرين ، والمنارة المضيئة مع الشرق .) وبقي طه حسين كما كانت تسميه (مي زيادة) (أبا العلاء وفولتير) وبقي عند صديقنا الشاعر نزار قباني (المبصر الوحيد الذي لا تدافع عنه عصور العميان .) ولكنه عندي الزميل الذي لا أحب، والأستاذ الذي لا أثق بعروبته، ولاأرتاح إلى وطنيته.} ثم يختم الكاتب مقاله بهذه العبارةهذا العميد المصري ليس منا، ولسنا منه.)
الرد على آراء النشاشيبي في العميد:
الوجه الصهيوني لطه حسين:
قد لا يكون تلخيص المحاضرة المنسوبة إلى (طه حسين) الذي قام به يهودي ، يعمل مراسلاً لمجلة يهودية بريئاً من الغرض ، نزيهاً من الدس ، ولكن كي نقوّم محاضرة (طه حسين) في علاقة اليهود بالأدب العربي أوبالعرب، ونحكم عليها حكماً منصفاً دقيقاً أو قريباً منهما ، ينبغي أن يتوافر لنا قبل كل شيء النص الكامل لمحاضرته، وإلاَّ فإنّا نظلم الرجل إذا اعتمدنا ملخصاً عرضه علينا يهودي، ونشره كاتب ستتضح بعد قليل علاقته بطه حسين، ورغم ذلك إذا كان لابد من قراءة النص المعروض أمامنا على علاّته، فإنَّ ما نلاحظه على كاتب المقال أنه لم يعلّق على النص، ولم يحدد فيه ما يدل على الوجه الصهيوني لطه حسين، كأن يشير على سبيل المثال إلى وقوع هذا الرجل في خطأ تأريخي أو مغالطة في حديثه عن العلاقة بين العرب واليهود في تلك المرحلة، فيدحضهما إلاَّ إذا اعتبر الكاتب إشارة طه حسين إلى وقوف اليهود إلى جانب العرب أو تأثرهم بالعرب في مراحل غزوهم في شمال أفريقيا أو في فتح الأندلس دلالة على وجهه الصهيوني،فهذا أمر ينبغي التوقف عنده قليلاً.وليس بوسع أحدأن ينكرماكان نتيجة الاختلاط بين العرب واليهود عبرمراحل التاريخ، لاسيما في فترة موضوع الحديث من تأثر وتأثير متبادل بينهما، كان اليهود فيها هم المتأثرين في أغلب الأحيان.وإذا كان طه حسين يتحدث عن هذه العلاقة، فإنه يحاول أن يكون موضوعياً دقيقاً منصفاً ما استطاع إلى ذلك سبيلاً،وليس معنى ذلك أنه مصيب، فقد يخطئ أو يبالغ. وعلى كل حال فإن مضمون المحاضرة يتناول العلاقة بين اليهود والعرب في مرحلة محددة واضحة هي مرحلة ازدهار الحضارة العربية الإسلامية منذ بدء الفتوحات في القرن الأول للهجرة حتى مرحلة استقرار العرب بالأندلس، فيبين المحاضر تأثر اليهود بالشعر العربي وبأوزانه وقوافيه،وتقديم اليهود،كما يزعم ملخص المحاضرة،المال لتسيير جيوش المسلمين إلى الفتوحات،ونقلهم ثقافة العرب وتراثهم إلى أوروبا الذي أسفر عن هذه الحضارة الحديثة بكل جوانبها،ويتناول ترجمة اليهود الأدب العربي إلى اللاتينية مباشرة أو إلى العبرية ثم اللاتينية ليصبح فيما بعد أدباً عالمياً، كما يبين المحاضر دور نوابغ اليهود في الحضارة العربية الإسلامية ثم إسلام بعضهم،وما تقدم ذكره،لا يدل على الوجه الصهيوني لطه حسين كما أراده كاتب المقال، وإنما أراد طه حسين أن يدلل على تأثير الحضارة العربية الإسلامية في اليهود،هذه الحضارة الشامخة التي استوعب كيانها الواسع كل الملل والنحل والطوائف والمذاهب جميعها على اختلافها التي أسهمت كلها إلى جانب العرب في بناء هذه الحضارة، والمأخذ على كاتب المقال أنه عزل النص عن ظرفه التأريخي، فالنص محكوم بظرفه، ومن الخطأ عزله عن ظرفه ذلك أن الظرف التأريخي الذي عاش فيه اليهود في كنف الحضارة العربية الإسلامية غير الظرف الذي ألقى فيه (طه حسين) محاضرته في العام 1943، فمن المؤكد أن اليهود في عهد الفتوحات العربية الإسلامية ليسوا صهاينة.
اليهود في نسيج المجتمع المصري قبل قيام(إسرائيل):
وقد يكون من أبناء الطائفة اليهودية في مصر أيام محاضرة طه حسين يهود لا صهاينة،والمحاضرة المذكورة سبقت تأسيس ما يسمى بدولة (إسرائيل) في العام 1948 بخمس سنوات،كذلك فإن الظرف الذي ألقى فيه طه حسين محاضرته يختلف عن الظرف الذي طرأ على الساحة الفلسطينية والعربية بعد العام 1948.لذا فإنه من العسف النظر إلى تولي (طه حسين) رئاسة تحرير جريدة (الكاتب المصري) في ذلك الوقت بعين ظروفنا الراهنة،وللبيان أقول: نعم! إن شركة (الكاتب المصري للورق والأدوات المكتبية)،كانت شركة مصرية داخل مصر، ويقال إنّها مملوكة لأسرة يهودية،وكانت تركيبة المجتمع يومذاك خليطاً من جاليات أجنبية شتى أقامت في مصر،وحصلت على امتيازات قديمة من دول الغرب الاستعماري،كما كانت في مصر جاليات يهودية ارتبط وجودها بظروف تأريخية:فقد كان في الإسكندرية جماعات من اليهود،وأغلبهم عائلات تراجعت مع العرب من الأندلس،وتوزّعت على شواطئ البحر الأبيض التوسط من الغرب حتى استانبول،واستقر بعضهم كوسطاء ووكلاء للتجارة مع المدن الإيطالية،وكان في القاهرة حارة لليهود،وكانت حيّاً نشطاّ من أحياء القاهرة على صلة مباشرة بالقلب التجاري للمدينة،وكان مما سهل اندماج الطائفة اليهودية التي تجاوزت الستين ألفاً في ذلك الوقت في الحياة المصرية أن قمة الطبقة المتوسطية في مصر كانت غالباً من أصول أجنبية،وقد برزت في تلك الفترة في مصر عائلات يهودية متنفذة مثل (قطاوي) و(موصيري) و(منشة) و(شيكوريل) و(رولو) و(ساسان) وغيرها،واحتل اليهود ما نسبة 39% من مقاعد مجالس إدارات جميع الشركات الصناعية والمالية في مصر، وشاركت عائلات منهم في إنشاء (بنك مصر) نفسه،وكانت لهم شبه سيطرة مؤثرة على عدد من الشركات الزراعية،ومارست نخبة من الطائفة اليهودية قدراً من التأثير في الحياة الاجتماعية،فقد كان لفرقة (الهابيما) المسرحية التي أنشأها اليهود في فلسطين مواسم في القاهرة،وكذلك الفرقة المسرحية (الفيلهارمونية) اليهودية التي أصبحت فيما بعد الأوركسترا الأولى في (إسرائيل)،وكانت الجامعة المصرية في فترة تألقها في الثلاثينات على صلة وثيقة بالجامعة العبرية في القدس،وكان بين أحمد لطفي السيد مدير الجامعة المصرية والدكتور (ماجنس) مدير الجامعة العبرية بالقدس صداقة،وكان (حاييم ناحوم أفندي) حاخام الطائفة اليهودية في مصر عضواً في مجلس الشيوخ المصري ثم عضواً بارزاً في مجمع اللغة العربية،وصديقاً مؤثراً على النخبة السياسية والثقافية والفكرية في مصر، داخل القصر الملكي وخارجه،وكان (حاييم إدجمان) أهم شخصية في جريدة (الأهرام) بعد رئيس تحريرها،كما كان (جون كيمشي) ابن عم (دافيد كيمشي) مسؤول الموساد الشهير مراسل (أخبار اليوم) المصرية في لندن،وكان(جوزيف ليفي) مراسل الجريدة في نيويورك أبرز رجال تنظيم المخابرات التابع للوكالة اليهودية،وكان بين مؤسسي نقابة الصحفيين المصريةعدد من اليهود،وفي تلك الفترة ترجم الماجور(أباإيبان) أبرز المتحدثين باسم الجيش البريطاني في القاهرة والذي أصبح فيما بعد وزيراً لخارجية (إسرائيل) أعمال عدد من كبار الكتاب المصريين إلى اللغة الإنكليزية بينهم (توفيق الحكيم) الذي ترجم له (أبا إيبان) كتابين هما: (عودة الروح)
و(شهرزاد) وكان بين الطائفة اليهودية تيار يدعو إلى مجتمع البحر الأبيض المتوسط،وهكذا فقد بدا أنَّ اليهود باتجاهات صهيونية أو غير صهيونية،يملكون في تلك الفترة مواقع مهمة ومؤثرة على قاعدة المجتمع المصري وقمته.(2)،ويبدو أن مصر وهي تحت الاحتلال البريطاني ( لم تكن واعية بما يجري على أراضيها لدعم المشروع الصهيوني في فلسطين) وإذا كانت هذه هي ظروف المجتمع المصري في الوقت الذي ألقى فيه طه حسين محاضرته في الإسكندرية،فإنه لابد من التعرف أيضاً إلى ظروف طه حسين نفسه بعد تلك الفترة.
حسين حمدان العسّـا ف
حسين العساف- المدير العام
-
عدد الرسائل : 58
تاريخ التسجيل : 24/06/2008
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى