من التأريخ الثقافي القديم في أعالي الرافدين
صفحة 1 من اصل 1
من التأريخ الثقافي القديم في أعالي الرافدين
من التاريخ الثقافي القديم في أعالي الرافدين ــ بقلم:اسكند ر داوود
لبلاد الجزيرة في أعالي الرافدين مقام أثير في تاريخ الثقافة، فقد كانت خلال فترة طويلة مركز نشاط فكرياً كبيراً، وزهت فيها الثقافتان: السريانية والعربية، وأنجبت مجموعة مختارة من علماء السريان والعرب، والسريان هم في الأصل الآراميون، وبين الشعبين العربي والآرامي صلات قربى وثيقة، تظهرواضحة في الأوصاف العرقية والخصائص النفسية والعقائد الدينية، والبنية الاجتماعية، وكلاهما من الشعوب السامية وموطنها جزيرة العرب، وبين اللغتين العربية والآرامية وجوه شبه كبيرة في حروف الهجاء وصياغة اللفظ واشتقاق الأفعال من الثلاثي وتصريفها ووجود زمنين للفعل هما: الماضي والمضارع وكذلك في الضمائرالشخصية وأسماء العدد وطائفة كبيرة من المفردات. كان الآراميون قبائل رحالة تنتقل شمالي الجزيرة العربية، ثم استقرت تدريجياً في مناطق الفرات الأوسط ، وأسست فيها الممالك والإمارات، وامتد سلطانها إلى البقاع المجاورة، ومن تلك الإمارات( آرام نهارين) بين الفرات والخابورو(فدام آرام)، وقاعدتها مدينة حرّان، وكانت دون الأولى اتساعاً، وثالثة عند ينابيع الخابورقرب بلدة رأس العين الحالية في الموقع المعروف باسم (تل حلف)، وقد اكتشفته، ونقب فيه الأثري الألماني البارون (فون أوبنهايم) سنة 1911 و 1927وفي سوريا الداخلية أقام الآراميون دولة لهم في (صوبة) بمنطقة البقاع ومركزها (عنجر) جنوبي شرقي مدينة زحلة ( لبنان )، واتخذت السيادة الآرامية ركيزة قوية لها في دمشق، وصارت هذه المدينة قاعدة لمملكة عظيمة اتسعت حدودها، فبلغت الفرات شمالاً، واليرموك جنوباً، وقارعت مراراً الآشوريين الآتين من الشمال، وذادتهم عن البلاد السورية، كما ردت الطامعين الصاعدين من الجنوب، وبقيت الحال كذلك حتى سنة 732 ق . م ، حين دهمتها غزوة آشورية ساحقة بقيادة (تغلات فلاسر) الثالث، واستولت على مدن آرام الواحدة بعد الأخرى ، ثم أقامت الحصار على العاصمة (دمشق)، وما زالت بها حتى افتتحتها، فقتل ملكها، وعدد كبير من سكانها، وقطعت أشجار غوطتها، وهي مصدر جمالها وثروتها، وبسقوط دمشق إنهار آخر حصن للعزة الآرامية في بلاد الشرق . عرف الآراميون منذ القديم بالنشاط والحذق والميل إلى الاتجار، وقد نشروا لسانهم في البلاد التي نزلوها، واتصلوا بأهلها، وما لبثت الآرامية أن سادت منطقة واسعة الأرجاء، تمتد من شواطئ المتوسط وآسيا الصغرى حتى إيران، وتنتهي جنوباً عند جزيرة العرب والخليج الفارسي ، وكانت هي اللغة التي تكلم بها السيد المسيح، وفي عهد (داريوس) الكبير الفارسي جعلت الآرامية اللغة الرسمية بين مقاطعات الإمبراطورية الفارسية، وبقيت حتى فتوحات الإسكندر اللغة المتداولة في إمبراطورية، تمتد من الهند حتى الحبشة، ويقول الدكتور (فيليب حتي) إنّ هذا الفوز الذي حققته لغة لا تدعمها سلطة حاكمة من أهلها، ليس له مثيل في التاريخ، وبقيت الحال كذلك قروناً عديدة حتى أخذت اللغة العربية تحل محلها تدريجياً بعد الفتح العربي ، وانقسمت اللغة الآرامية بفعل الزمن واتساع المناطق التي تتكلم بها إلى مجموعتين أي لهجتين: الغربية والشرقية، وبعد اعتناق الآراميين الديانة المسيحية آثروا تسمية أنفسهم بالسريان تجنباً لاسمهم القديم لمدلوله الوثني ، أما لفظة سريان ، فقد أخذوها عن اليونان ، ومعناها سوريون أي سكان سوريا، وكان اليونان يطلقون اسم سوريا على البقاع الممتدة من شواطئ المتوسط حتى تخوم الدولة الفارسية إذ ذاك، وظهرت تباشير الحياة الفكرية عند القوم بعد ركونهم إلى الحياة الحضرية واتصالهم بالشعوب المجاورة، وقد نشأ الأدب السرياني أولاً في بلاد الجزيرة بعد دخولها في الدين المسيحي، واحتفظ بالطابع الديني، وغلب على الباحثين والكتاب السريان أن يكونوا من رجال الدين ، ومن علماء اللاهوت ، ويقول (روبنس دوقال)، وهو من ذوي الإطلاع الواسع على الأدب السرياني:إنّ علماء السريان الذين انصرفوا إلى دراسة الفلسفة والعلوم والطب ، كانوا من رجال الدين وإنّ الأطباء السريان الذين اشتهروا في بلاط الخلفاء العباسيين، كانوا من المتبحرين في علوم الدين، وبلغ هذا الأدب أوج أزدهاره في القرن السادس الميلادي ، وفيه ظهرت مؤلفاتهم التاريخية، وقد دونوا فيها الأحداث التي كانت تقع بالعراق والجزيرة وسوريا ومصر، ومنها الحروب التي كانت تدور بين الفرس والروم ، وخصوا بعض كتبهم بالأزمات الصعبة التي اعترضت الكنيسة السريانية وبالمظالم التي كانت تنزلها السلطات البيزنطية الحاكمة بأتباعها، وتناول بعض هذه المؤلفات علاقات الدولة العباسية بالإمبراطورية البيزنطية، وما كان يقوم بينهما من منافسات ومنازعات ومن خصومات وحروب. أمّا الشعر السريا ني ، فقد نشأ في ظلال الكنائس والأديار، وغذاه الشعور الديني الجديد، وكان لا يزال في حدته وعنفوانه، وكان شعراؤهم من رجال الدين كذلك، وكانت أغراض هذا الشعر تمجيد الخالق عز وجل وبيان نعمه الكثيرة على مخلوقاته والإشادة بحقائق الدين وبمناقب السيد المسيح ووالدته العذراء وبالذين ناضلوا عن العقيدة، واستشهدوا في سبيلها، وحثوا في أشعارهم على التقوى والصلاح والزهد في الدنيا، وكان للوعظ والحكم نصيب كبير من منظوماتهم وفي مطلع القرن التاسع أخضع السريان شعرهم لأحكام القافية أخذاً عن العرب، وكانوا قد درسوا العربية، وأجادها الكثيرون منهم، وأحدثوا في نثرهم طريقة السجع على غرار العربية كذلك، وكان شعرهم هنا يرتل في الكنائس، فيزيد حفلاتهم الدينية هيبة وجلالاً. كان السريان يجيدون لسانهم بحكم الفطرة لغتهم وطبقوا قواعده عليها، وأول نحوي سرياني في نظر الكثيرين(مارا حودمه) مطران تكريت، وقد وضع كتابه على أصول النحو اليوناني ،وإن الطابع اليوناني ليظهرواضحاً في اللغة السريانية وعلومها وآثارها، كما يظهرأثرالسريانية في المؤلفات العربية الباحثة في الفلسفة والعلوم والرياضيات، واتسع أفق الثقافة، فأقبل القوم على دراسة اللغة اليونانية للاطلاع على مؤلفات اليونان وللتبسط في الفلسفة والعلوم والتعميق في الأبحاث اللاهوتية، والفلسفة واللاهوت هما الجناحان اللذان اعتمدهما الفكر الإنساني للانطلاق في رحاب الوجود مستجلياً أسراره وخفاياه، ونمت الدراسات اليونانية في المدارس والأديرة الكثيرة المنبثة في أنحاء الجزيرة وغيرها، ونقلوا الكثير من مصنفات اليونان، وأهمها مؤلفات (أرسطو)و(أيساغوجي بروفيروس) في المنطق ورسائل كثيرة لـ(سقراط) و(فيثاغوراس)وغيرهما، وأنجب السريان عدداً كبيراً من الأطباء، كان لهم أثر ظاهر في تقدم هذه الصناعة الجليلة، وقد نقلوا عن اليونانية كتب( بقراط) و(جالينوس) و(د يستوريدس)، وكان لهم الفضل في ترجمة هذه المؤلفات إلى العربية، وعني السريان بذلك بعلم الفلك، وحرروه باكراً من أوهام التنجيم، ومن فلكييهم (سرجيس الراسعيني)، وترك رسالة في تأثير القمر وأخرى في حركة الشمس، ووضع (ساويرا سابوخت) أبحاثاً كثيرة في الفلك، ومن أهمها كتاب في صور البروج، ولابن العبري كتاب اسمه ( الصعود العقلي )، وقد أودعه مجمل ما توصل إليه هذا العلم في عصره، ومن باحثيهم في الجغرافيا (داود بن رابان)، وسمّى بحثه (حدود الأقاليم واختلاف الليل والنهار) و لـ (موسى بن كيفا) مؤلف حوى بعض الخرائط على طريقتهم في تلك الأيام ، وهذه النهضة الفكرية الشاملة رافقها قيام مدارس ومؤسسات ثقافية كبيرة، أشهرها مدارس(الرها)و(نصيبين)و(رأس العين)و(قنسرين)، وقد كان من نتيجة تنازل الرومان للفرس عن مدينة نصيبين /363 م / أن هجرتها الطبقة المثقفة الثرية، واستقرأكثرأفرادها في مدينة الرها(أورفا اليوم)، وأسسوا مدرستها التي ما لبثت أن اشتهرت، وصارت مقصد الطلاب من شتى الأقطار، وعرفت بدراساتها اليونانية إلى جانب علوم الدين والفلسفة، وبقيت (الرها) حقبة طويلة مركز إشعاع فكرياً، فسميت بحق ( أثينا العالم الآرامي )، وقد أغلقت مدرستها نهائياً سنة 489م بأمرالإمبراطور البيزنطي (زينون)، وذهب أساتذتها إلى نصيبين، وأقاموا فيها مدرسة صارت بعد مدرسة (الرها) مركز الثقافة السريانية اليونانية، وذهب بعضهم إلى مدرسة (حرّان)، وكانت هذه المدينة في حوزة الفرس، وكانت السريانية لغة التدريس فيها، وعرفت سريانية الحرانيين بالفصاحة والنقاء، أمّا دير(قنسرين) فكان في المدينة المعروفة بهذا الاسم، وكان موقعها على ضفة الفرات مقابل بلدة جرابلس الحالية( شمالي سوريا)، وفي هذا الجو العلمي نشأت طائفة كبيرة من رجال الفكر والأدب، نأتي الآن على ذكر أشهرهم، فمن اوائلهم (برديصان الرهاوي)، وكان وثنياً، ثم تنصر، واشتغل بالفلسفة والفلك، وكان شاعراً موهوباً، وأحدث أوزاناً جديدة في الشعر، وكان واسع الاطلاع على علوم الكلدان واليونان عارفاً بمختلف الديانات والفلسفات، وكان يقول: إنّ النفس البشرية (لا تولد، ولا تموت، وإنما تتخذ الجسد مقاماً وآلة لفترة من الزمن )، ومنهم (مارأفرام) الغني عن التعريف، أصله من (نصيبين)، وقد نزح إلى (الرها)، وكان من مؤسسي مدرستها، ومن كبار أساتذتها، وهو أعظم شعراءالسريان، وواحد من كبار كتابهم، وقد ترك إنتاجاً أدبياً ضخماً، يكاد لا يصدق لاتساعه وتنوّعه، وأحدث في العروض السرياني البحر السباعي المعروف بـ(الأفرامي)، نسبة إليه، واشتهر بتقواه ورصانته وزهده في الدنيا وميله إلى عمل الخير، وكان إلى هذا كله موسيقياً بارعاً، وقد لحن مقطوعات كثيرة من شعره، كان يرتلها مع جوقته في الاحتفالات الدينية، ولا تزال عماد الموسيقى الدينية في الكنائس السريانية والمارونية حتى يومنا هذا، وقد تخطت هذه الأنغام (الأفرامية) جدران الكنائس، ولا تزال أصداؤها العذبة، تترد حتى اليوم فيما يترنم به الناس، ويطربهم في ربوع حلب والجزيرة والعراق. أمّا مؤلفات هذا العلامة، فقد أحرزت شهرة واسعة، ونقلت إلى كثير من اللغات القديمة والحديثة، ومن مشاهيرهم(ثيوفيل الرهاوي)، وكان فلكياً بارعاً وذا حظوة لدى الخليفة (المهدي) في بغداد، وقد وضع مؤلفاً في التاريخ، وتناول ملحمتي هوميروس الشهيرتين(الإلياذة) و(الأوديسة)، فنقلمها إلى السريانية، ومن دواعي الأسف أن تكون هذه الآثار الطريفة قد فقدت جميعاً خلا مقطوعات منها، وردت في بعض المؤلفات، وقد أتم هذا العالم السرياني ترجمة الإلياذة حوالي سنة 765، فيكون السريا ن قد سبقوا العرب إلى هذه التحفة الشعرية بأكثر من ألف وماية سنة(سليمان البستاني نشرترجمته للإلياذة سنة 1905)، ويعد (ماريعقوب السروجي) واحداً من كبار الشعراء السريان، وقد جعل موضوع أشعاره أحداث العهد القديم والعهد الجديد، فجاء ت غاية في براعة الخيال وحسن الصياغة وعفوية السرد، واشتهر(الرهاوي) بطول النفس حتى إنّ بعض قصائده بلغت ثلاثة آلاف بيت، وهو واضع البحرالاثني عشري المعروف (السروجي) نسبة إليه، وأصله من منطقة(سروج)، وكان أسقفاً لمدينة (بطنان)، وتوفي سنة 521، أمّا (مار فيلكسينوس المنبجي) مطران(منبج)الواقعة قرب الفرات، فقد وضع مؤلفات كثيرة في اللاهوت وتفسير الكتاب، واشتهربدفاعه الشديد عن مذهب الطبيعة الواحدة، ويعده السريان في طليعة كتابهم، ومن نوابغهم في القرن السابع (ماريعقوب الرهاوي)، وقد تلقى العلم في دير(قنسرين)، ثم سافرإلى الإسكندرية للتعمق باليونانية والفلسفة، وقد ترك مؤلفات جليلة في اللاهوت والفلسفة والتأريخ، وكان متفوقاً في علوم اللغة وأصول المفردات ومن مصنفاته( قاموس المصطلحات الفلسفية)، أمّا(جرجس) أسقف العرب، فقد أكمل علومه في دير(قنسرين) ثم سيم سنة /686 /م أسقفاً لبني تنوخ وطي وعقيل، فعرف بأسقف العرب، وكان من الراسخين في علوم الد ين والفلسفة والفلك، وله رسائل في بعض المعضلات الفلكية، وقد اشتهر بترجمة كتاب (الأورغانون) لأرسطو، وهو مجموعة مؤلفاته في المنطق، واطلع المستشرق الافرنسي(رينان) على هذه الترجمة، فوصفها بأنها خير ما وقف عليه من مؤلفات السريان الفلسفية، واشتهر من أبناء رأس العين(سرجيس الرأسعيني)، وقد أكمل عمل أسلافه في المنطق، فنقل إلى السريانية كتاب(الايساغوجي) ومقولات أرسطو، وله مؤلفات أخرى منها(أسباب العالم حسب مبادئ أرسطو)، وتميزت ترجماته بالأمانة والوضوح، وكان(سرجيس)رئيساً لأطباء رأس العين، وترجم بعض مؤلفات (جالينوس) الطبية، ومنها( صناعة الطب ) و(خواص الأدوية)و(الأدوية البسيطة) وألحق كلا منها بقائمة، تتضمن أسماء النباتات الواردة فيها، ومقابلها بالسريانية، وكان (سرجيس) من المشتغلين بالفلك، كما أشرنا . ونختم كلامنا عن علماء السريان في الجزيرة بالمؤرخ المعروف الشهير(غريغوريوس أبي الفرج) المعروف بـ (ا بن العبري)، وهو أعظمهم (وإن كان الأخير زمانه)، وكان مولده في مدينة (ملطيا) على الفرات سنة 1226م ، وتلقى العلم في أنطاكية، وسمّي أسقفاً لبلدة (جوبوس) ثم لمدينة حلب، وولي فيما بعد بمناصب دينية كبيرة في الجزيرة والعراق، وكثرت في أيامه الكوارث والحروب، ومنها غزوات المغول المدمرة، فكان دائم الرحلة والتنقل في تلك الربوع مؤاسياًومرشداً، وقد أحاط (ابن العبري) بجميع فروع المعرفة في عصره، وخلف تراثاً علمياً ضخماً، فأ لف في اللاهوت والفلسفة والتاريخ والنحو والطب والرياضيات والفلك ، ولم يغفل الظواهر الجويةوالحيوان والنبات، وبرع في نظم الشعر، له (التاريخ الكنسي) في مجلدين و(تاريخ الزمان منذ الخليفة إلى سنة 1285)، وقد د وّن فيه تاريخ العالم ، واستعان في وضعه بمؤلفات سريانية وعربية وفارسية، وقف عليها في مكتبة (مراغه أذربيجان)، وله بالعربية(تاريخ مختصر الدول)، وقد كتبه إجابة لطلب بعض أمراء (مراغه) اقتباساً من تاريخه السالف الذكر، وتوفي في (مراغه) سنة1286، ووجدت الثقافة العربية كأختها السريانية منطلقاً رحباً في بلاد الجزيرة، وأنجبت مدرسة حرّان في العهد العربي نخبة مختارة من الرياضيين والفلكيين والفلاسفة والأطباء والمترجمين ذلك أن الديانة الصابئية، وقوامها عبادة الكواكب، وأوجدت فيهم ميلاً أصيلاً إلى الأبحاث الفلكية والرياضية، وإلى ذلك فقد كان هؤلاء الصابئة ورثة الثقافة الكلدانية، ويجيء في طليعة هؤلاء العلماء الفلكي الشهير(بالبتاني)، واسمه الكامل أبو عبد الله محمد بن جابر سنان البتاني، وأصله من قرية(بتان) بنواحي (حرّان)، وتلقى العلم في مدرسة (حرّان)، وأقام مدة فيها، ثم استقر في مدينة الرقة على الفرات، وأخذ يزاول الأرصاد الفلكية، وبقي يبحث، ويؤلف طيلة أيام حياته، ثم سافر إلى بغداد لبعض شؤونه، وأدركته المنية فيما هو عائد منها إلى الرقة سنة 929 م. وضع البتاني مؤلفات كثيرة، وصل إلينا منها كتاب (الزيج)، وقد أودعه خلاصة أرصاده وتحقيقاته، وكان له أثر بالغ في تقدم علم الفك وعلم المثلثات الكروية، ونال هذا الكتاب شهرة واسعة في العصر الوسيط ، ونقل إلى اللاتينية، وأمر(الفونس) العاشر ملك(قشطلونة) بنقله من العربية إلى الأسبانية، ومن آثار(البتاني) العلمية أنه حسب بدقة كبيرة مقدارالانحراف في دائرة البروج، ومدة السنة الشمسية وطوال الفصول الأربعة، وأثبت بطلان نظرية (بطليموس)الذي كان يقول بتساوي المسافة بين الأرض والشمس طيلة أيام السنة، وأصلح الحسابات المتعلقة بحركات القمروالسيّارات، ودقق حسابات الكسوف والخسوف، وأثبت بالبرهان الرياضي إمكان وقوع الكسوف الحلقي. ونذكر هنا أن المجامع العلمية في باريس ولندن واستكهولم، كانت أقامت سنة 1929م بمناسبة الذكرى الألفية لوفاة هذا العالم ندوات علمية، أشاد فيها الخطباء بالبتاني ، وبما أحرزه علم الفلك من تقدم على يديه، وما زال علماء الغرب يعدونه واحداً من مؤسسي علم الفلك الرياضي، ويحلونه في صف كبار الباحثين في جميع العصور، وكان (ثابت بن قرة) أحد الأعلام الذين أخرجتهم مدرسة (حرّان)، واشتهر بالطب والهندسة والفلك والفلسفة، جاء بغداد في عهد الخليفة (المعتضد)، وكان له فضل في تنشيط حركة الترجمة، وقد عني هو وتلاميذه بنقل طائفة من أهم المصنفات اليونانية، ومن بينها كتب(بطليموس)، و(أرخميدس)، وسارولده (سنان بن ثابت) على خطوات أبيه، كان طبيب الخليفتين (المقتدر) و(القاهر)، ثم جاء ولدا(سنان) (ثابت) و(إبراهيم)، فتابعا أعمال أبيهما وجدهما في ميادين البحث والتأليف والترجمة. ونذكر من علماء (حرّان)(الحجاج بن يوسف بن مطر) المترجم الأول لهندسة (أقليدس) ولكتاب (المجسطي في الفلك) لـ (بطليموس) وكلاهما من أعظم آثار اليونان العلمية، ولفظة (مجسطي)يونانية معناها (الأكبر)، وقد سمّاه أبناء عصره كذلك تنويهاً بقدره، وينسب إلى مدرسة (حرّان) كذلك(هلال المحسن أبو جعفر الخازن) من مشاهير علماء الفلك والرياضيات. وننتقل الآن من (حرّان) إلى جزيرة (ابن عمرو)، هي من أقدم مدن الجزيرة على الضفة اليمنى من دجلة شمالي الموصل، وهي اليوم داخل الأراضي التركية على مقربة من الحدود السورية. قد اشتهرت هذه المدينة فيما مضى بثقافتها العربية، وكفاها فخراً أنّها الموطن الذي أنجب أبناء الأثير الثلاثة من كبارعلماء العربية، ومن مشاهير كتابها،وأولهم مجد الدين أبوالسعادات المبارك ابن محمد ولد سنة 1149م، وتوفي في الموصل سنة 1210م، تقلب في مناصب رفيعة، وخلف مصنفات جليلة في علوم القرآن والسنة والنحو. وثانيهما عز الدين أبو الحسن علي بن محمد الشهيربا بن الأثير صاحب كتاب (الكامل في التاريخ)، ويقع في خمسة عشر مجلداً، وقد دوّن فيه الأحداث العالمية من الخليفة حتى سنة 1131م ، وقد عرف هذا المؤرخ بالنزاهة وسداد الرأي وجودة الأسلوب، ويعد مؤلفه هذا من أمهات المصادر لتاريخ الشرق في العصر الوسيط ، ولابن الأثير كذلك(تاريخ الأتابكة) حكام الموصل وكتاب (أسد الغابة في تاريخ الصحابة)، وقد أتى فيه على ذكر سبعة آلاف وخمسماية من الرجال الذين عاصروا النبي الكريم، واختصر كتاب الأنساب للسمعاني، وسمّاه(اللباب)، أمّا ثالث الإخوة، فهو ضياء الدين أبو الفتح نصرالله، وهو من كبار اللغويين والكتاب، وتولى الوزارة غير مرة، غير أنه كان مفرطاً في الاعتداد بنفسه والاستهانة بالغير، فكثرمن حوله الخصوم والأعداء، له ( المثل الساير في أد ب الكاتب والشاعر)، وهو حجة في صناعة الإنشاء، وله أيضاً كتاب(الوشي المرقوم في حل المنظوم)، وقد توفي في سنة 1239م . أتينا هذا المقال على وصف موجز للحياة الفكرية الناشطة التي زهت في أعالي الرافدين ، وكانت ثمرة جهود طويلة متعاقبة، استمرت نحو تسعة قرون. على أنّ الأحداث المروّعة التي عصفت ببلاد الشرق في القرن الثالث عشر، وما بعده قضت على كل ما أبدعه الإنسان فيها من ثقافة وفن ومن حضارة وعمران، وكان من أعظم تلك الأحداث، وأبعدها أثراً غارات المغول، وما رافقها من خراب ودمار ثم وقوع البلاد في قبضة العثمانيين، وما تبعه من كوارث وويلات كان الانتداب الفرنسي آخر فجيعة من فواجعها، وبغزوات المغول وسيطرة العثمانيين والفرنسيين خيّم على أقطارالشرق ليل دامس، واستولى عليها جمود قاتل، فصارت إلى حال هي أقرب إلى الغيبوبة والخدر منها إلى اليقظة الواعية الشاعرة بالألم. وأخيراً جاءت النهضة العربية الحديثة، فقضت على مخلفات التواكل والاستسلام، وأعادت للأمة ثقتها بنفسها وبمصيرها، فراحت تقيم استقلالها وحريتها على أسس ثابتة ودعائم ركينة .
(من التاريخ الثقافي القديم في أعالي الرافدين بقلم : اسكند ر داوود ــ البحث منقول من مجلة العمران،عد د خاص عن محافظة الحسكة،(من صفحة256 إلى صفحة261) أصد رته وزارة البلديات ـ العدد 41 ـ 42 ـ السنة 1972. رئيس التحرير عادل سلوم)
لبلاد الجزيرة في أعالي الرافدين مقام أثير في تاريخ الثقافة، فقد كانت خلال فترة طويلة مركز نشاط فكرياً كبيراً، وزهت فيها الثقافتان: السريانية والعربية، وأنجبت مجموعة مختارة من علماء السريان والعرب، والسريان هم في الأصل الآراميون، وبين الشعبين العربي والآرامي صلات قربى وثيقة، تظهرواضحة في الأوصاف العرقية والخصائص النفسية والعقائد الدينية، والبنية الاجتماعية، وكلاهما من الشعوب السامية وموطنها جزيرة العرب، وبين اللغتين العربية والآرامية وجوه شبه كبيرة في حروف الهجاء وصياغة اللفظ واشتقاق الأفعال من الثلاثي وتصريفها ووجود زمنين للفعل هما: الماضي والمضارع وكذلك في الضمائرالشخصية وأسماء العدد وطائفة كبيرة من المفردات. كان الآراميون قبائل رحالة تنتقل شمالي الجزيرة العربية، ثم استقرت تدريجياً في مناطق الفرات الأوسط ، وأسست فيها الممالك والإمارات، وامتد سلطانها إلى البقاع المجاورة، ومن تلك الإمارات( آرام نهارين) بين الفرات والخابورو(فدام آرام)، وقاعدتها مدينة حرّان، وكانت دون الأولى اتساعاً، وثالثة عند ينابيع الخابورقرب بلدة رأس العين الحالية في الموقع المعروف باسم (تل حلف)، وقد اكتشفته، ونقب فيه الأثري الألماني البارون (فون أوبنهايم) سنة 1911 و 1927وفي سوريا الداخلية أقام الآراميون دولة لهم في (صوبة) بمنطقة البقاع ومركزها (عنجر) جنوبي شرقي مدينة زحلة ( لبنان )، واتخذت السيادة الآرامية ركيزة قوية لها في دمشق، وصارت هذه المدينة قاعدة لمملكة عظيمة اتسعت حدودها، فبلغت الفرات شمالاً، واليرموك جنوباً، وقارعت مراراً الآشوريين الآتين من الشمال، وذادتهم عن البلاد السورية، كما ردت الطامعين الصاعدين من الجنوب، وبقيت الحال كذلك حتى سنة 732 ق . م ، حين دهمتها غزوة آشورية ساحقة بقيادة (تغلات فلاسر) الثالث، واستولت على مدن آرام الواحدة بعد الأخرى ، ثم أقامت الحصار على العاصمة (دمشق)، وما زالت بها حتى افتتحتها، فقتل ملكها، وعدد كبير من سكانها، وقطعت أشجار غوطتها، وهي مصدر جمالها وثروتها، وبسقوط دمشق إنهار آخر حصن للعزة الآرامية في بلاد الشرق . عرف الآراميون منذ القديم بالنشاط والحذق والميل إلى الاتجار، وقد نشروا لسانهم في البلاد التي نزلوها، واتصلوا بأهلها، وما لبثت الآرامية أن سادت منطقة واسعة الأرجاء، تمتد من شواطئ المتوسط وآسيا الصغرى حتى إيران، وتنتهي جنوباً عند جزيرة العرب والخليج الفارسي ، وكانت هي اللغة التي تكلم بها السيد المسيح، وفي عهد (داريوس) الكبير الفارسي جعلت الآرامية اللغة الرسمية بين مقاطعات الإمبراطورية الفارسية، وبقيت حتى فتوحات الإسكندر اللغة المتداولة في إمبراطورية، تمتد من الهند حتى الحبشة، ويقول الدكتور (فيليب حتي) إنّ هذا الفوز الذي حققته لغة لا تدعمها سلطة حاكمة من أهلها، ليس له مثيل في التاريخ، وبقيت الحال كذلك قروناً عديدة حتى أخذت اللغة العربية تحل محلها تدريجياً بعد الفتح العربي ، وانقسمت اللغة الآرامية بفعل الزمن واتساع المناطق التي تتكلم بها إلى مجموعتين أي لهجتين: الغربية والشرقية، وبعد اعتناق الآراميين الديانة المسيحية آثروا تسمية أنفسهم بالسريان تجنباً لاسمهم القديم لمدلوله الوثني ، أما لفظة سريان ، فقد أخذوها عن اليونان ، ومعناها سوريون أي سكان سوريا، وكان اليونان يطلقون اسم سوريا على البقاع الممتدة من شواطئ المتوسط حتى تخوم الدولة الفارسية إذ ذاك، وظهرت تباشير الحياة الفكرية عند القوم بعد ركونهم إلى الحياة الحضرية واتصالهم بالشعوب المجاورة، وقد نشأ الأدب السرياني أولاً في بلاد الجزيرة بعد دخولها في الدين المسيحي، واحتفظ بالطابع الديني، وغلب على الباحثين والكتاب السريان أن يكونوا من رجال الدين ، ومن علماء اللاهوت ، ويقول (روبنس دوقال)، وهو من ذوي الإطلاع الواسع على الأدب السرياني:إنّ علماء السريان الذين انصرفوا إلى دراسة الفلسفة والعلوم والطب ، كانوا من رجال الدين وإنّ الأطباء السريان الذين اشتهروا في بلاط الخلفاء العباسيين، كانوا من المتبحرين في علوم الدين، وبلغ هذا الأدب أوج أزدهاره في القرن السادس الميلادي ، وفيه ظهرت مؤلفاتهم التاريخية، وقد دونوا فيها الأحداث التي كانت تقع بالعراق والجزيرة وسوريا ومصر، ومنها الحروب التي كانت تدور بين الفرس والروم ، وخصوا بعض كتبهم بالأزمات الصعبة التي اعترضت الكنيسة السريانية وبالمظالم التي كانت تنزلها السلطات البيزنطية الحاكمة بأتباعها، وتناول بعض هذه المؤلفات علاقات الدولة العباسية بالإمبراطورية البيزنطية، وما كان يقوم بينهما من منافسات ومنازعات ومن خصومات وحروب. أمّا الشعر السريا ني ، فقد نشأ في ظلال الكنائس والأديار، وغذاه الشعور الديني الجديد، وكان لا يزال في حدته وعنفوانه، وكان شعراؤهم من رجال الدين كذلك، وكانت أغراض هذا الشعر تمجيد الخالق عز وجل وبيان نعمه الكثيرة على مخلوقاته والإشادة بحقائق الدين وبمناقب السيد المسيح ووالدته العذراء وبالذين ناضلوا عن العقيدة، واستشهدوا في سبيلها، وحثوا في أشعارهم على التقوى والصلاح والزهد في الدنيا، وكان للوعظ والحكم نصيب كبير من منظوماتهم وفي مطلع القرن التاسع أخضع السريان شعرهم لأحكام القافية أخذاً عن العرب، وكانوا قد درسوا العربية، وأجادها الكثيرون منهم، وأحدثوا في نثرهم طريقة السجع على غرار العربية كذلك، وكان شعرهم هنا يرتل في الكنائس، فيزيد حفلاتهم الدينية هيبة وجلالاً. كان السريان يجيدون لسانهم بحكم الفطرة لغتهم وطبقوا قواعده عليها، وأول نحوي سرياني في نظر الكثيرين(مارا حودمه) مطران تكريت، وقد وضع كتابه على أصول النحو اليوناني ،وإن الطابع اليوناني ليظهرواضحاً في اللغة السريانية وعلومها وآثارها، كما يظهرأثرالسريانية في المؤلفات العربية الباحثة في الفلسفة والعلوم والرياضيات، واتسع أفق الثقافة، فأقبل القوم على دراسة اللغة اليونانية للاطلاع على مؤلفات اليونان وللتبسط في الفلسفة والعلوم والتعميق في الأبحاث اللاهوتية، والفلسفة واللاهوت هما الجناحان اللذان اعتمدهما الفكر الإنساني للانطلاق في رحاب الوجود مستجلياً أسراره وخفاياه، ونمت الدراسات اليونانية في المدارس والأديرة الكثيرة المنبثة في أنحاء الجزيرة وغيرها، ونقلوا الكثير من مصنفات اليونان، وأهمها مؤلفات (أرسطو)و(أيساغوجي بروفيروس) في المنطق ورسائل كثيرة لـ(سقراط) و(فيثاغوراس)وغيرهما، وأنجب السريان عدداً كبيراً من الأطباء، كان لهم أثر ظاهر في تقدم هذه الصناعة الجليلة، وقد نقلوا عن اليونانية كتب( بقراط) و(جالينوس) و(د يستوريدس)، وكان لهم الفضل في ترجمة هذه المؤلفات إلى العربية، وعني السريان بذلك بعلم الفلك، وحرروه باكراً من أوهام التنجيم، ومن فلكييهم (سرجيس الراسعيني)، وترك رسالة في تأثير القمر وأخرى في حركة الشمس، ووضع (ساويرا سابوخت) أبحاثاً كثيرة في الفلك، ومن أهمها كتاب في صور البروج، ولابن العبري كتاب اسمه ( الصعود العقلي )، وقد أودعه مجمل ما توصل إليه هذا العلم في عصره، ومن باحثيهم في الجغرافيا (داود بن رابان)، وسمّى بحثه (حدود الأقاليم واختلاف الليل والنهار) و لـ (موسى بن كيفا) مؤلف حوى بعض الخرائط على طريقتهم في تلك الأيام ، وهذه النهضة الفكرية الشاملة رافقها قيام مدارس ومؤسسات ثقافية كبيرة، أشهرها مدارس(الرها)و(نصيبين)و(رأس العين)و(قنسرين)، وقد كان من نتيجة تنازل الرومان للفرس عن مدينة نصيبين /363 م / أن هجرتها الطبقة المثقفة الثرية، واستقرأكثرأفرادها في مدينة الرها(أورفا اليوم)، وأسسوا مدرستها التي ما لبثت أن اشتهرت، وصارت مقصد الطلاب من شتى الأقطار، وعرفت بدراساتها اليونانية إلى جانب علوم الدين والفلسفة، وبقيت (الرها) حقبة طويلة مركز إشعاع فكرياً، فسميت بحق ( أثينا العالم الآرامي )، وقد أغلقت مدرستها نهائياً سنة 489م بأمرالإمبراطور البيزنطي (زينون)، وذهب أساتذتها إلى نصيبين، وأقاموا فيها مدرسة صارت بعد مدرسة (الرها) مركز الثقافة السريانية اليونانية، وذهب بعضهم إلى مدرسة (حرّان)، وكانت هذه المدينة في حوزة الفرس، وكانت السريانية لغة التدريس فيها، وعرفت سريانية الحرانيين بالفصاحة والنقاء، أمّا دير(قنسرين) فكان في المدينة المعروفة بهذا الاسم، وكان موقعها على ضفة الفرات مقابل بلدة جرابلس الحالية( شمالي سوريا)، وفي هذا الجو العلمي نشأت طائفة كبيرة من رجال الفكر والأدب، نأتي الآن على ذكر أشهرهم، فمن اوائلهم (برديصان الرهاوي)، وكان وثنياً، ثم تنصر، واشتغل بالفلسفة والفلك، وكان شاعراً موهوباً، وأحدث أوزاناً جديدة في الشعر، وكان واسع الاطلاع على علوم الكلدان واليونان عارفاً بمختلف الديانات والفلسفات، وكان يقول: إنّ النفس البشرية (لا تولد، ولا تموت، وإنما تتخذ الجسد مقاماً وآلة لفترة من الزمن )، ومنهم (مارأفرام) الغني عن التعريف، أصله من (نصيبين)، وقد نزح إلى (الرها)، وكان من مؤسسي مدرستها، ومن كبار أساتذتها، وهو أعظم شعراءالسريان، وواحد من كبار كتابهم، وقد ترك إنتاجاً أدبياً ضخماً، يكاد لا يصدق لاتساعه وتنوّعه، وأحدث في العروض السرياني البحر السباعي المعروف بـ(الأفرامي)، نسبة إليه، واشتهر بتقواه ورصانته وزهده في الدنيا وميله إلى عمل الخير، وكان إلى هذا كله موسيقياً بارعاً، وقد لحن مقطوعات كثيرة من شعره، كان يرتلها مع جوقته في الاحتفالات الدينية، ولا تزال عماد الموسيقى الدينية في الكنائس السريانية والمارونية حتى يومنا هذا، وقد تخطت هذه الأنغام (الأفرامية) جدران الكنائس، ولا تزال أصداؤها العذبة، تترد حتى اليوم فيما يترنم به الناس، ويطربهم في ربوع حلب والجزيرة والعراق. أمّا مؤلفات هذا العلامة، فقد أحرزت شهرة واسعة، ونقلت إلى كثير من اللغات القديمة والحديثة، ومن مشاهيرهم(ثيوفيل الرهاوي)، وكان فلكياً بارعاً وذا حظوة لدى الخليفة (المهدي) في بغداد، وقد وضع مؤلفاً في التاريخ، وتناول ملحمتي هوميروس الشهيرتين(الإلياذة) و(الأوديسة)، فنقلمها إلى السريانية، ومن دواعي الأسف أن تكون هذه الآثار الطريفة قد فقدت جميعاً خلا مقطوعات منها، وردت في بعض المؤلفات، وقد أتم هذا العالم السرياني ترجمة الإلياذة حوالي سنة 765، فيكون السريا ن قد سبقوا العرب إلى هذه التحفة الشعرية بأكثر من ألف وماية سنة(سليمان البستاني نشرترجمته للإلياذة سنة 1905)، ويعد (ماريعقوب السروجي) واحداً من كبار الشعراء السريان، وقد جعل موضوع أشعاره أحداث العهد القديم والعهد الجديد، فجاء ت غاية في براعة الخيال وحسن الصياغة وعفوية السرد، واشتهر(الرهاوي) بطول النفس حتى إنّ بعض قصائده بلغت ثلاثة آلاف بيت، وهو واضع البحرالاثني عشري المعروف (السروجي) نسبة إليه، وأصله من منطقة(سروج)، وكان أسقفاً لمدينة (بطنان)، وتوفي سنة 521، أمّا (مار فيلكسينوس المنبجي) مطران(منبج)الواقعة قرب الفرات، فقد وضع مؤلفات كثيرة في اللاهوت وتفسير الكتاب، واشتهربدفاعه الشديد عن مذهب الطبيعة الواحدة، ويعده السريان في طليعة كتابهم، ومن نوابغهم في القرن السابع (ماريعقوب الرهاوي)، وقد تلقى العلم في دير(قنسرين)، ثم سافرإلى الإسكندرية للتعمق باليونانية والفلسفة، وقد ترك مؤلفات جليلة في اللاهوت والفلسفة والتأريخ، وكان متفوقاً في علوم اللغة وأصول المفردات ومن مصنفاته( قاموس المصطلحات الفلسفية)، أمّا(جرجس) أسقف العرب، فقد أكمل علومه في دير(قنسرين) ثم سيم سنة /686 /م أسقفاً لبني تنوخ وطي وعقيل، فعرف بأسقف العرب، وكان من الراسخين في علوم الد ين والفلسفة والفلك، وله رسائل في بعض المعضلات الفلكية، وقد اشتهر بترجمة كتاب (الأورغانون) لأرسطو، وهو مجموعة مؤلفاته في المنطق، واطلع المستشرق الافرنسي(رينان) على هذه الترجمة، فوصفها بأنها خير ما وقف عليه من مؤلفات السريان الفلسفية، واشتهر من أبناء رأس العين(سرجيس الرأسعيني)، وقد أكمل عمل أسلافه في المنطق، فنقل إلى السريانية كتاب(الايساغوجي) ومقولات أرسطو، وله مؤلفات أخرى منها(أسباب العالم حسب مبادئ أرسطو)، وتميزت ترجماته بالأمانة والوضوح، وكان(سرجيس)رئيساً لأطباء رأس العين، وترجم بعض مؤلفات (جالينوس) الطبية، ومنها( صناعة الطب ) و(خواص الأدوية)و(الأدوية البسيطة) وألحق كلا منها بقائمة، تتضمن أسماء النباتات الواردة فيها، ومقابلها بالسريانية، وكان (سرجيس) من المشتغلين بالفلك، كما أشرنا . ونختم كلامنا عن علماء السريان في الجزيرة بالمؤرخ المعروف الشهير(غريغوريوس أبي الفرج) المعروف بـ (ا بن العبري)، وهو أعظمهم (وإن كان الأخير زمانه)، وكان مولده في مدينة (ملطيا) على الفرات سنة 1226م ، وتلقى العلم في أنطاكية، وسمّي أسقفاً لبلدة (جوبوس) ثم لمدينة حلب، وولي فيما بعد بمناصب دينية كبيرة في الجزيرة والعراق، وكثرت في أيامه الكوارث والحروب، ومنها غزوات المغول المدمرة، فكان دائم الرحلة والتنقل في تلك الربوع مؤاسياًومرشداً، وقد أحاط (ابن العبري) بجميع فروع المعرفة في عصره، وخلف تراثاً علمياً ضخماً، فأ لف في اللاهوت والفلسفة والتاريخ والنحو والطب والرياضيات والفلك ، ولم يغفل الظواهر الجويةوالحيوان والنبات، وبرع في نظم الشعر، له (التاريخ الكنسي) في مجلدين و(تاريخ الزمان منذ الخليفة إلى سنة 1285)، وقد د وّن فيه تاريخ العالم ، واستعان في وضعه بمؤلفات سريانية وعربية وفارسية، وقف عليها في مكتبة (مراغه أذربيجان)، وله بالعربية(تاريخ مختصر الدول)، وقد كتبه إجابة لطلب بعض أمراء (مراغه) اقتباساً من تاريخه السالف الذكر، وتوفي في (مراغه) سنة1286، ووجدت الثقافة العربية كأختها السريانية منطلقاً رحباً في بلاد الجزيرة، وأنجبت مدرسة حرّان في العهد العربي نخبة مختارة من الرياضيين والفلكيين والفلاسفة والأطباء والمترجمين ذلك أن الديانة الصابئية، وقوامها عبادة الكواكب، وأوجدت فيهم ميلاً أصيلاً إلى الأبحاث الفلكية والرياضية، وإلى ذلك فقد كان هؤلاء الصابئة ورثة الثقافة الكلدانية، ويجيء في طليعة هؤلاء العلماء الفلكي الشهير(بالبتاني)، واسمه الكامل أبو عبد الله محمد بن جابر سنان البتاني، وأصله من قرية(بتان) بنواحي (حرّان)، وتلقى العلم في مدرسة (حرّان)، وأقام مدة فيها، ثم استقر في مدينة الرقة على الفرات، وأخذ يزاول الأرصاد الفلكية، وبقي يبحث، ويؤلف طيلة أيام حياته، ثم سافر إلى بغداد لبعض شؤونه، وأدركته المنية فيما هو عائد منها إلى الرقة سنة 929 م. وضع البتاني مؤلفات كثيرة، وصل إلينا منها كتاب (الزيج)، وقد أودعه خلاصة أرصاده وتحقيقاته، وكان له أثر بالغ في تقدم علم الفك وعلم المثلثات الكروية، ونال هذا الكتاب شهرة واسعة في العصر الوسيط ، ونقل إلى اللاتينية، وأمر(الفونس) العاشر ملك(قشطلونة) بنقله من العربية إلى الأسبانية، ومن آثار(البتاني) العلمية أنه حسب بدقة كبيرة مقدارالانحراف في دائرة البروج، ومدة السنة الشمسية وطوال الفصول الأربعة، وأثبت بطلان نظرية (بطليموس)الذي كان يقول بتساوي المسافة بين الأرض والشمس طيلة أيام السنة، وأصلح الحسابات المتعلقة بحركات القمروالسيّارات، ودقق حسابات الكسوف والخسوف، وأثبت بالبرهان الرياضي إمكان وقوع الكسوف الحلقي. ونذكر هنا أن المجامع العلمية في باريس ولندن واستكهولم، كانت أقامت سنة 1929م بمناسبة الذكرى الألفية لوفاة هذا العالم ندوات علمية، أشاد فيها الخطباء بالبتاني ، وبما أحرزه علم الفلك من تقدم على يديه، وما زال علماء الغرب يعدونه واحداً من مؤسسي علم الفلك الرياضي، ويحلونه في صف كبار الباحثين في جميع العصور، وكان (ثابت بن قرة) أحد الأعلام الذين أخرجتهم مدرسة (حرّان)، واشتهر بالطب والهندسة والفلك والفلسفة، جاء بغداد في عهد الخليفة (المعتضد)، وكان له فضل في تنشيط حركة الترجمة، وقد عني هو وتلاميذه بنقل طائفة من أهم المصنفات اليونانية، ومن بينها كتب(بطليموس)، و(أرخميدس)، وسارولده (سنان بن ثابت) على خطوات أبيه، كان طبيب الخليفتين (المقتدر) و(القاهر)، ثم جاء ولدا(سنان) (ثابت) و(إبراهيم)، فتابعا أعمال أبيهما وجدهما في ميادين البحث والتأليف والترجمة. ونذكر من علماء (حرّان)(الحجاج بن يوسف بن مطر) المترجم الأول لهندسة (أقليدس) ولكتاب (المجسطي في الفلك) لـ (بطليموس) وكلاهما من أعظم آثار اليونان العلمية، ولفظة (مجسطي)يونانية معناها (الأكبر)، وقد سمّاه أبناء عصره كذلك تنويهاً بقدره، وينسب إلى مدرسة (حرّان) كذلك(هلال المحسن أبو جعفر الخازن) من مشاهير علماء الفلك والرياضيات. وننتقل الآن من (حرّان) إلى جزيرة (ابن عمرو)، هي من أقدم مدن الجزيرة على الضفة اليمنى من دجلة شمالي الموصل، وهي اليوم داخل الأراضي التركية على مقربة من الحدود السورية. قد اشتهرت هذه المدينة فيما مضى بثقافتها العربية، وكفاها فخراً أنّها الموطن الذي أنجب أبناء الأثير الثلاثة من كبارعلماء العربية، ومن مشاهير كتابها،وأولهم مجد الدين أبوالسعادات المبارك ابن محمد ولد سنة 1149م، وتوفي في الموصل سنة 1210م، تقلب في مناصب رفيعة، وخلف مصنفات جليلة في علوم القرآن والسنة والنحو. وثانيهما عز الدين أبو الحسن علي بن محمد الشهيربا بن الأثير صاحب كتاب (الكامل في التاريخ)، ويقع في خمسة عشر مجلداً، وقد دوّن فيه الأحداث العالمية من الخليفة حتى سنة 1131م ، وقد عرف هذا المؤرخ بالنزاهة وسداد الرأي وجودة الأسلوب، ويعد مؤلفه هذا من أمهات المصادر لتاريخ الشرق في العصر الوسيط ، ولابن الأثير كذلك(تاريخ الأتابكة) حكام الموصل وكتاب (أسد الغابة في تاريخ الصحابة)، وقد أتى فيه على ذكر سبعة آلاف وخمسماية من الرجال الذين عاصروا النبي الكريم، واختصر كتاب الأنساب للسمعاني، وسمّاه(اللباب)، أمّا ثالث الإخوة، فهو ضياء الدين أبو الفتح نصرالله، وهو من كبار اللغويين والكتاب، وتولى الوزارة غير مرة، غير أنه كان مفرطاً في الاعتداد بنفسه والاستهانة بالغير، فكثرمن حوله الخصوم والأعداء، له ( المثل الساير في أد ب الكاتب والشاعر)، وهو حجة في صناعة الإنشاء، وله أيضاً كتاب(الوشي المرقوم في حل المنظوم)، وقد توفي في سنة 1239م . أتينا هذا المقال على وصف موجز للحياة الفكرية الناشطة التي زهت في أعالي الرافدين ، وكانت ثمرة جهود طويلة متعاقبة، استمرت نحو تسعة قرون. على أنّ الأحداث المروّعة التي عصفت ببلاد الشرق في القرن الثالث عشر، وما بعده قضت على كل ما أبدعه الإنسان فيها من ثقافة وفن ومن حضارة وعمران، وكان من أعظم تلك الأحداث، وأبعدها أثراً غارات المغول، وما رافقها من خراب ودمار ثم وقوع البلاد في قبضة العثمانيين، وما تبعه من كوارث وويلات كان الانتداب الفرنسي آخر فجيعة من فواجعها، وبغزوات المغول وسيطرة العثمانيين والفرنسيين خيّم على أقطارالشرق ليل دامس، واستولى عليها جمود قاتل، فصارت إلى حال هي أقرب إلى الغيبوبة والخدر منها إلى اليقظة الواعية الشاعرة بالألم. وأخيراً جاءت النهضة العربية الحديثة، فقضت على مخلفات التواكل والاستسلام، وأعادت للأمة ثقتها بنفسها وبمصيرها، فراحت تقيم استقلالها وحريتها على أسس ثابتة ودعائم ركينة .
(من التاريخ الثقافي القديم في أعالي الرافدين بقلم : اسكند ر داوود ــ البحث منقول من مجلة العمران،عد د خاص عن محافظة الحسكة،(من صفحة256 إلى صفحة261) أصد رته وزارة البلديات ـ العدد 41 ـ 42 ـ السنة 1972. رئيس التحرير عادل سلوم)
حسين العساف- المدير العام
-
عدد الرسائل : 58
تاريخ التسجيل : 24/06/2008
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى