أقاصيص من:(زمن الخوف) ـ قتيبة الحسيني
صفحة 1 من اصل 1
أقاصيص من:(زمن الخوف) ـ قتيبة الحسيني
أقاصيص من: (زمن الخوف) ــ قـتيبة الحسـيني
بانوراما للحب والوطن:
أمسك الريشة بأسنانه فقد نسي أن له يدين مبدعتين وأخذ يرسم كل الأشياء حتى الكلمات المتزاحمة فوق صفحات المهمل . تداخل بالألوان أمتزج بها جعل من صدره محراباً كتب عليه ( سينتهي الوجود لكن معبودتي ستبقى وشاحاً للزمن ) بحث عن لمعان المعادن في عينيها في خبايا الروح عن نظراتها الناعسة في مدارات العالم ناجاها :
( سنلتقي يا عشيرتي فلا تكسري رموشك الجارحة دعيها تمتد حتى تغطي البياض المنتشر حول حدقتيك . اتركي لروحينا حرية الترحال فالغربة تكشف أماكن وأسماء جديدة تضل مخزونة في الذاكرة مثلما تبقى الروح مختبئة في الجسد )
* * *
يداعب ريشته يدقق بالألوان الممزوجة فوق شعيراتها يحاول التعبير عن ابتسامة حبيبته ... أمه .... بيارات البرتقال ... أحواض الياسمين ... وجهة الصوفي المتخفي خلف خارطة الزمن وليالي العشق ذات الألوان الأرجوانية يشعر بالعجز فهذه معضلة العصر تموت فيها الأحاسيس في كل لحظة وتتشرنق فيها المشاعر ضمن خبايا الأمسيات . يغمس ريشته باللون الأزرق يحركها بشكل دائري يسرع حركة يده فتأخذه الدوائر الزرقاء شكل أنهدام حلزوني في محوره نقطة من اللون الأحمر تنحدر متطاولة عبر المجرى المتصاغر حتى تختفي . أنه البحر يا صغيرتي يبتلع كل الأشياء عندما يغضب السفن المحملة بالخبز والنفط وتقنيات العصر ... الوجوه الفرحة المطمئنة والوجوه الخائفة الحزينة .. أزهار عيد الحب الحمراء . لقد تحول الوطن لبحر غاضب تغرق فيه آلام الحاضر وأمجاد الماضي المسطرة فوق صفحات كتب التاريخ المهملة وتضيع في أعماقه أهازيج الأطفال وابتهالاتهم . أنه الوطن المترسب في أعماق البحر الميت .
* * *
الأخضر لون تعجز الريشة عن استخدامه وتجسيد أبعاده المترامية فوق التلال وعلى أوراق شجيرات الحلفا التي تنحني على ضفاف النهر الذابل . أنها العشب وأوراق الأشجار وروح حبيبتي التي لن تموت .يداعب بريشته اللوحة الخرساء يرسم ملامح الخير فيتجسد ابتسامة وحباً ولوناً جميلاً يحمل زينة الأجسام الدامية دون حزن تبكي حبيبتي بحرقة الحب فتسيل دموعها الحمراء على خديها المجعدين فتتحول إلى أنهار من الدم تنبع من رموشها الحزينة الذابلة . هذه هي بحيرة العشق الحمراء التي يحاصرها نهر الفرات الجديد بلونه الباهت وأعشابه المتسلقة التي بدأت تطفو فوق سطحه سنفجر الدم في شراييني المتصلبة فليس من قلب إنساني لا بعشق ويحيا بلون الدم الأحمر .الأسود لون مدافن أجدادنا القديمة ووشاح الليل الذي يبتلع لحظات العمر ستكتمل لوحة الوجود من أجل حبك أيتها الأرض التي أغفو بين حبات ترابها وأترك قلبي بذرة بين أجفانها الباكية المتشحة بالسواد .
أحزان حامد المسعود:
كان ينظر إلى ساعته بين الفينة يرصد تسارع اللحظات والعرق يتصبب من جبهته وأصابعه تضغط بالقلم على الأوراق البيضاء حافرةً على سطحها الأملس زحماً من الذكريات الحزينة المنسية يدقق بعقارب الساعة محاولاً تسريعها يتأفف يستعمل سبابته التي تبدو هلالاً مقلوباً لإزالة حبات العرق المجمعة على جبهته .. تدفع القطرات بعضها لدرجة تبدو فيها وأكنها أنهمار ينبوع صخري في أيام الشتاء يلقي بالقلم على الطاولة يبعث بشعره الأشيب هل يمكن تأجيلها إلى صباح الغد أستاذ عامر ؟لا يمكن يا حامد فاليوم يجب أن تطبع الصفحة الثقافية . يعود للكتابة وعيناه الممتلئان شوقاً تسرقان النظر لعقارب الساعة ( كيف تقضي وقتك يا سرحان لا بد أنك قلق وذيلك يضرب قدميك وأنفك يجس الفراغ بين خشبة الباب والبلاط العتيق مستنفراً ذكراتك القريبة والبعيدة متوجساً أستنشاق رائحة العرق المنصب من جسدي التعب .سآتي فلا تقلق ) يتابع رصف كلماته الفارغة على الورقة الأخيرة فهو لا يريد أن يعبر عن شيء سوى الرغبة العارمة بالعودة للبيت وملاقاة سرحان تتدافع الكلمات دون معنى يضع نقاطاً متتالية ويكتب ورائها .... إلى أخره يلقي بالقلم فوق الطاولة ويغادر المكان .
* * *
كان يكلفه بذراعيه العجوزين يضمه إلى صدره بقوة محاولاً دفعه بين أضلاعه الناتئة .أحنى رأسه نحوه مرّغ خديه بوبره الفضي الناعم شمشمه بعمق دون أن يشعر بذرات الغبار المندفعة نحو رئتيه وقدماه تغوصان في الرمال وتخرجان منها ببطء معبرتان عن الرغبة الدفينة بتعطيل حرك الزمن لكن الرياح المثقلة بالرمال والأشواك الصحراوية أجبرتهما على التنقل عبر هذا السيل الرملي الممتد إلى ما وراء الأفق . لم يعد قادراً على متابعة السير جلس على الأرض وذراعاه تحتضنان جثة سرحان وكأنه يريد أن يثبت فيه شيئاً من روحه .أنه شريك غربته التي مضى على ضياعه فيها أكثر من خمسة عشرة عاماً .أخذ يحفر الأرض بأصابعه المرتجفة مزيحا من الرمال على الاتجاهات الأربعة ... قبّل سرحان ومدده في الحفرة الصغيرة .. تلمس وبره الفضي الناعم .. ألقى عليه النظرة الأخيرة .. دثره بالرمال الناعمة فسالت دموعه من بين رموشه منحدره عبر التجعدات التي رسمها الزمن مشكلة مجريين لنهر أحزانه الأبدية ضغط القلم على الوريقة البيضاء فسالت الكلمات باكية ( كم هي قاسية لحظات الوداع ؟ سرقت منا هموم غربتنا الطويلة أنفاسنا التي كانت تخلخل هواء الغرفة الساكن ولحظات الاسترخاء على الشاطئ البعيد ونظراتنا التي كانت تحلم باختراق الأفق ونبضات قلبينا التي كانت تتسارع كلما غادر مركب الميناء .لقد أودعتك الأرض يا أنيس غربتي وهذا أنذا أجسدك ذكرى على وريقاتي النقية .. ترى هل سأجد من يودعني الأرض ويجسدني على الورق ) .
الخوف من الانطفاء:
تشعر أيديث بوجع مابين صدغيها يتسلل ببطء نحو عينيها الزرقاويين فتتهاوى رموشها الشقراء المتعبة الباردة مغطية أجفانها التي اتشحت بالسواد .تغفو من تعب العشق الإنساني وآلام القطرات الدافئة التي تندرف نحو التشققات اليابسة المرسومة على وجهها، فقد مرت سنون طويلة، وهي قابعة داخل المشفى المتنقل الذي بترت بين جدرانه القماشية أرجل وأيدي وأصابع وألسن كثيرة . حزينة أنت يا أيديث فقد أتعبك الزمان وصار ظهرك منحنياً مرتجفاً ولم يودعك كثير من الناس عندما دفنت صامتة في مقابر تلقى فوقها الورود بأيام الآحاد قال عنها البسطاء أنها مقابر العظماء أولئك الذين تبعثرت عيونهم وقطع حافة من عقولهم وفي الساحة الحمراء لكن الحب الإنساني جعل كل الأجساد تنسحب من مقابرها متحولة لقطع قماشية تمسح الدموع عن عيون أيديث الغارقة في الحلم .نسي الناس بعد انهاء مراسيم الجنازة أن أيديث لم يصلّ عليها في الكنائس المدن الخائفة لكنهم لم يقدروا على نسيان كلماتها البسيطة وابتساماتها المحيرة التي كانت تسمح بها دموع كل الأطفال المنسيين خلف الجدران المصنوعة من طين والرطب وتحت الأسقف الخشبية المنحنية كظهر أيديث ولم يستطيعوا نسيان شغفها للحياة وكأنها طفل لم يحن ظهره ذلك الصليب الخشبي الذي كان يحمله ويدور فوق المقابر المتناثرة والحدائق المتغلغلة بين مدافن البسطاء .المدافن الذابلة لكنها لم تكن تحمل ملامح الموت الأبدي الذي مزق ردائها الأبيض بينما كانت ترسم صلبان الخير فوق جباه الفقراء الذين ثبتت أيديهم وأرجلهم بمسامير فولاذية ليتمكنوا من محاربة الانطفاء بنطاق السيد المسيح الذي طرد به السماسرة واللصوص والقوادين والرابيين من بيت أبيه لأنهم أولاد الأفاعي . للأفعى نابان مثقوبان ينفثان السّم وجسد جميل مرن تداخلت بين مساماته ألوان خرافية عجزت العيون التي هربت من الموت الأبدي أن تحولها لرداء أبيض كرداء أيديث . لقد سجنت تلك العيون بتموجات الليل الهادئ دون أن تعلم أن صمته يجرحها نحو عالم الحلم ولحظة والانطفاء . أشعلت أيديث لفافة تبغها وارتشفت قطرات من ماء نهر الخابور وبردى والفرات فتغلغل الماء عبر بداخله حبات ذهبية من تراب الوطن رددت بصمتها الحزين عباراتها الشهيرة ( الإنسان حمل بريء يحمله السيد المسيح بين ذراعيه ومن أجله نزف دمه الطاهر .... ومن الثقوب التي خلفتها المسامير الوحشية التي اخترقت كفيه وقدميه العاريتين).
حسين العساف- المدير العام
-
عدد الرسائل : 58
تاريخ التسجيل : 24/06/2008
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى